(رؤية سوسيولوجية – نقدية)
يعتقد معظم رواد مدرسة فرانكفورت النقدية أن المجتمع الصناعي المتقدم قد استطاع “ أن يكسب كثيراً من الأرض التي كان على الحرية الجديدة أن تزدهر عليها. لقد امتلك هذا المجتمع أبعاد الوعي والطبيعة التي لم تتلوث في الماضي إلا نسبياً. لقد صاغ بدائل تاريخية في صورته، وليّن من التناقض الذي أصبح يتحمله بهذه الصورة. وخلال هذا الغزو الديمقراطي – الشمولي للإنسان والطبيعة، أمكن غزو المسافة الذاتية والموضوعية المتاحة لعالم الحرية ”([1]).
سعى المجتمع الصناعي المتقدم جاهداً بكل قواه، إلى تفريغ المجتمع من كل أشكال النقد، بهدف السيطرة عليه وتطوعيه في خدمة تحقيق أهدافه وغاياته المتمثلة بالسيطرة والتسلط على الإنسان والطبيعة. فوسائل الاتصال الجماهيري المحصنة بالتكنولوجيا التي يمتلكها هذا المجتمع على سبيل المثال، لا تجد أي عناء يذكر في تحويل المصالح الخاصة إلى مصالح تهم كل أفراد المجتمع من ذوي الحس السليم. حيث يبدو أن كل شيء عقلاني ولا يشوبه أي التناقض أو الخلل.
يشرح ماركيوز سبب هذه السيطرة أن طاقات المجتمع المعاصر (الفكرية والمادية) الحالية أعظم بكثير مما كانت عليه في السابق، وهذا معناه أن هيمنة المجتمع على الفرد أكثر بكثير من السنوات الماضية، لقدرة هذا المجتمع على استخدام التكنولوجيا وترشيدها في سبيل السيطرة على أفراده من خلال تحسين مستوى معيشتهم وجعلهم أسيرين لها بكل ممارستهم اليومية([2]).
قدم المجتمع الصناعي المتقدم لأفراده مبررات منطقية للقضاء على كل أشكاله النقد، من خلال التقدم التقني الذي يرسخ دعائم كاملة من السيطرة والتنسيق، فالنظام يقوم بدوره بتوجيه التقدم من خلال خلق أشكال للحياة والسلطة التي تبدو وكأنها منسجمة مع نظام القوى المعارضة، حيث يتم إبطال كل محاولة للاحتجاج باسم الآفاق المستقبلية أو باسم تحرر الإنسان. لذا يصبح المجتمع المعاصر قادراً على الصمود دون أي تبدل اجتماعي، أي دون التحول بالمعنى الكيفي الذي يؤدي إلى قيام مؤسسات تختلف اختلافاً جوهرياً عن الحالية تساعد على قيام طراز جديد للحياة الاجتماعية. مما يضع عراقيل حقيقية أمام عملية التغيير الاجتماعي([3])؛ لأن الرأسمالية المتقدمة قد استطاعت اليوم أن تجدد نفسها من خلال تطوير نظام وأسلوب الاستغلال، فلم يعد الاستغلال والسيطرة يرتبطان على نحو ما كان عليه في الماضي (أي الشعور بالمعاناة)، لأن مثل هذا الشعور يمكن تعويضه الآن عن طريق مستوى الرفاهية الذي لم يسبق له مثيل([4]).
فعلى سبيل المثال، تستخدم الأنظمة الرأسمالية مقدار مقنن من التسامح الذي يتطلبه النظام الديمقراطي مع القوى المعارضة، الذي يؤدي إلى تورط هذه القوى في اللعبة البرلمانية، وبهذا تصبح المعارضة مندمجة داخل منظومة المجتمع القائم، وبالتالي يجردها تماماً من سلاحها الوحيد، ألا وهي القدرة على رفض النظام القائم. وبنفس هذا السياق يساعد هذا التسامح أيضاً على الترويج لسائر البرامج الإصلاحية السلمية التي تتوهم إمكانية الوصول إلى تغيرات جذرية دون اللجوء للعنف الثوري، لذا نجد أن هذا التسامح الحذر الذي تمنحه المجتمعات الرأسمالية، يصبح أداة ناجحة لتحديد القوى الراديكالية المعارضة للنظام، فالشعب يتسامح مع الحكومة، والحكومة تتسامح مع المعارضة داخل إطار شمولي يتخذ من الديمقراطية ستاراً لممارساته القمعية([5]).
والدليل على ذلك، أن النظم السياسية الراهنة التي تتخذ الشكل الديمقراطي، فإن هذا لا يؤخر ولا يقدم شيئاً لموقفها الأساسي، فما الديمقراطية إلا واجهة تحكم من ورائها صفوة ما لحساب مصالح معينة، أو ما هي في الحقيقة إلا نوع من الطغيان الذي يرتدي الرداء الديمقراطي من خلال الأغلبية. وما الالتزام بالقرار الديمقراطي إلا نوع من الالتزام الزائف، ذلك أن الالتزام الحقيقي لا يمكن أن ينبع من إرادة تم تخريبها والسيطرة عليها([6]).
هذا ما دعا ماركيوز إلى توضيح مدى التزييف الذي أصاحب مفهوم النقد في هذا المجتمع من خلال إقامة المقارنة بين نقد المجتمع الصناعي في مرحلة تكوينه، وبين وضعه الراهن للدلالة على الوضع الذي ترد إليه. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر على سبيل المثال كان النقد يمارس عمله بصورة جلية متوسطاً بين النظرية والممارسة، بين القيم والوقائع، بين الحاجات والأهداف. فالبرجوازية والبروليتاريا كطبقتين كبيرتين متعارضتين بالمجتمع قد وعتا الدور التاريخي للنظرية وراحتا تستخدمانه في عملهما السياسي. أما في الوضع الحالي نجد أن البرجوازية والبروليتاريا على الرغم من أنهما الطبقتين الرئيستين في العالم الرأسمالي، إلا أن العالم قد شوه بنيتهما ووظيفتهما إلى حد عدم القدرة على النظر إليهما كعامل للتحول التاريخي. ففي القطاعات من المجتمع المعاصر توجد مصلحة قوية لتوحيد خصوم الأمس بهدف الحفاظ على مؤسسات المجتمع الصناعي المتقدم من جهة وتدعيمها من جهة أخرى([7]).
إن البنية الطبقة للمجتمع الصناعي والصراع الطبقي بين الطبقات، كما صورها ماركس لم تعد تعتبر قسمات هامة للمجتمعات الغربية الحديثة، لأن هذه المجتمعات سعت إلى توحيد الخصمين السابقين في المجالات الأكثر تقدماً للمجتمع المعاصر، لأن من مصلحتها الإبقاء على مقاليد السيطرة والهيمنة التي تستحوذها باسم التقدم والارتقاء([8]).أي إن الطبقة المعارضة، والمتمثلة بالطبقة العاملة لم تعد موجودة لأنه تم استيعابها واسترضائها، ليس من خلال الاستهلاك فقط، وإنما أيضاً من خلال عملية الإنتاج المرشدة ذاتها([9]).
ونتيجةً لغياب عوامل التغير الاجتماعي في هذا المجتمع تم القضاء على أي محاولة بناءة للنقد مما أدى به إلى تقوقعه في مجال التجريد فقط. الأمر الذي أدى إلى تحطيم حقيقي للأرض المشتركة بين النظرية والممارسة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة. إذا كانت عوامل التحول غائبة (أي التغيير الاجتماعي)، فهل هذا نقد حاد للنظرية؟
يشرح ماركيوز هذا الطرح من خلال إصراره على أن التحليل النقدي، المواجه لوقائع متناقضة على أرض الواقع الاجتماعي، ما يزال يعتبر أن التغير الاجتماعي ضرورياً وملحاً أكثر من أي وقت من الأوقات، فهو ضروري للمجتمع برمته أي لكل عضو من أعضائه. بسبب أن الإنتاجية الصناعية ووسائل التدمير (الموجهة لحماية المجتمع من الأخطار الخارجية) تنمو بوتيرة واحدة، مما جعل البشرية مهددة بدمار شامل، والفكر والأمل والخوف رهن بإدارة السلطات القائمة، فهذا الوضع يعتبر ناتج عن عقلانية المجتمع المعاصر التي توجه تقدمه وتطوره، إلا أن هذه العقلانية تبدو في مبدئها لا عقلانية([10]).
فإذا كان أفراد المجتمع يقبلون أن يكون مجتمعهم على هذا الحال خال من أي حركة نقدية، فهذا الوضع لا يزيد من عقلانية المجتمع ولا تقلل من قابليته للنقد. لأن التمييز بين الوعي الحقيقي والزائف، لم يفقد شيئاً من دلالته. لكن هذا التمييز بحاجة إلى الإثبات والبرهان. وعلى كل إنسان أن يكتشفه وأن يبحث عن الطرق التي ستقوده من الوعي الزائف إلى الوعي الحقيقي. والإنسان لا يستطيع فعل ذلك إلا إذا شعر بالحاجة إلى تبديل نمط حياته، أي إلى نفي الإيجابي الذي يؤدي إلى الرفض. فسعى المجتمع الصناعي بكل ما يملك من قوة إلى قمع هذه الحاجة، بتناسب مطرد مع قدرته على إنتاج الخيرات وتوزيعها، ومع قدرته على استخدام الإنجازات العلمية التي تم التوصل إليها في مجال الطبيعة في غزو الإنسان من خلالها([11]).
من خلال هذا العرض السريع لقدرة الإنجازات العلمية في السيطرة على المجتمع الصناعي وجعله مجتمع بلا معارضة، نجد أن النظرية النقدية فقدت كل السيطرة على أن تبرر عقلانياً ضرورة تجاوز هذا المجتمع. وهذه نتيجة طبيعية لأن الفراغ قد أصاب بنية النظرية بالذات، وكما نعلم أن تطور المقولات النظرية في عصر ما يأتي كرد فعل تتلاحم فيه حاجة الرفض والنقض والهدم مع قوى اجتماعية حقيقة وفعالة، لذا نجد أن المجتمع الصناعي الحديث سعى إلى إفراغ المجتمع من كل عناصر القوى الاجتماعية الرافضة لسياساته وتوجهاته من خلال التقدم والتطور الذي بلغه بأساليب عقلانية.
يدلل ماركيوز على هذا الوضع من خلال الرجوع إلى الماضي لرصد وضع المقولات النظرية في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، ليبين كيف كانت هذه المقولات النظرية في جوهرها مفاهيم سالبة ومعارضة تحدد التناقضات الحية للمجتمع الأوروبي. فمقولة “المجتمع” بالذات تعبر عن الصراع الحاد بين الدائرة الاجتماعية والدائرة السياسية، وتشير إلى المجتمع بوصفه نقيض للدولة. وهذا الأمر ينطبق على مقولات كثيرة في هذا المجتمع مثل: (الفرد، الأسرة، الطبقة)([12]).أما المجتمع الصناعي المتقدم فقد سعى إلى تجريد هذه المقولة من أي محتوى نقدي لتصبح مصطلحات وصفية، عاملية، مخيبة للأمل. من خلال ما يلي([13]):
أ- رفض كل فكرة تحاول النظر إلى جهاز الإنتاج والتوزيع التقني (التكنولوجيا) في المجتمع الصناعي على أنه مجرد حشد جمعي من الأدوات التي يمكن عزلها عن مقتضياتها الاجتماعية والسياسية. وتسويقه على أنه نظام يحدد قبلياً ما ينبغي له أن ينتجه بالإضافة إلى ذلك وسائل صيانته وتوسيع سلطته. بمعنى أن الأهداف والمصالح المحددة لتسلط التكنولوجيا لا يتم دسّها على هذا المفهوم من بعيد ومن الخارج، إنما تكمن في تصميم بناء الجهاز التقني([14]).
ب- ميل جهاز الإنتاج في المجتمع الصناعي المتقدم إلى أن يصبح كلياً، بمعنى أنه يحدد لأفراد المجتمع الصبوات والحاجات الفردية في الوقت نفسه الذي يحدد فيه النشاطات والمواقف والقابليات التي تستلزمها الحياة الاجتماعية.
وهكذا لم تعد هناك أي معارضة بين الحياة الخاصة والحياة العامة، بين الحاجات الفردية والحاجات الاجتماعية. فالتقنية تفسح المجال لتأسيس أشكال من الرقابة والتلاحم الاجتماعي أكثر نعومة وفاعلية في آن واحد.
ويمكن بذلك وصف المجتمع الصناعي المتقدم باعتباره عالماً تكنولوجياً وعالماً سياسياً أيضاً، فهو المرحلة الأخيرة من مشروع تاريخي نوعي في سبيله إلى التحقيق والإنجاز، ويعني بذلك ماركيوز أن تجربة الطبيعة وتحويلها وتنظيمها باعتبارها مجرد دعائم للسيطرة. فالمشروع كلما تطور كيّف وحدد عالم الكلام والعمل، عالم الثقافة على الصعيد المادي وعلى الصعيد الفكري. فعن طريق التكنولوجيا تلتغم الثقافة والسياسية والاقتصاد في نظام كلي الحضور يفترس أو ينبذ كل الحلول البديلة، لأن هذا النظام يمتلك إنتاجية وطاقة متعاظمتان تقودان المجتمع إلى الاستقرار وتحسبان التقدم التقني في مخطط السيطرة، وبهذا غدت العقلانية التكنولوجية عقلانية سياسية بامتياز([15]). فالأنظمة الليبرالية الراهنة ما هي في جوهرها إلا أنظمة شمولية من نوع جديد وأن زعم أنصارها غير ذلك، فالفرد في ظلّها يجد نفسه مشدود الوثاق إلى عجلة هائلة من التنظيمات الإنتاجية لا يستطيع الفكاك منها([16]).
بذلك يكون المجتمع الصناعي قد أحكم إغلاق كل أبواب النقد الاجتماعي التي يمكن أن يتعرض لها للمحافظة على السوية التي يراه أنها مناسبة لتطوره والتقدم بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى حتى لو كان هذا على حساب حرية الفرد والمجتمع، أي ” مجتمع بلا معارضة “.
([1]) هربرت ماركيوز: فلسفة النفي (دراسات في النظرية النقدية)، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، منشورات دار الآداب، بيروت، ط1، 1971، ص(11).
([2]) هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988، ص(26).
([3]) المرجع السابق نفسه، ص(28).
([4]) Herbert Marcuse: An Essay on Liberation, Beacon Press, Boston, 1969, p.(13) .
([5]) Herbert Marcuse: A Critique of pure Tolerance, Beacon Press, Boston, 1965, p.(83).
([6]) أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة: نصار عبد الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988، ص(31-32).
([7]) هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص(29).
([8]) توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، دار أويا، بنغازي، 2004، ص(76).
([9]) المرجع السابق نفسه، ص(82).
([10]) هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص(30).
([11]) المرجع السابق نفسه، ص(30).
([12]) المرجع السابق نفسه، ص(30-31).
([13]) المرجع السابق نفسه، ص(31).
([14]) Herbert Marcuse: Industrialization and capitalism, Boston, Beacon Press,1968, P.(179).
([15]) هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، مرجع سبق ذكره، ص(33)
([16]) أنطوني دي كرسبني وكينيث مينوج: أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة، مرجع سبق ذكره، ص(23).
___________
**د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
*المصدر: التنويري.