أبعاد الحريَّة ودلالاتها في “شارع الحريَّة” للقاصّ محمد الشايب
تعد الحرية حقا من حقوق الإنسان، ومطلبا حياتيا أساسيا يناضل الأفراد والجماعات من أجل تحقيقه، ويضحون بالغالي والنفيس من أجل ذلك. فقد خلق الإنسان حرا، ولذلك لا يمكنه إلا أن يبقى ويظل كذلك؛ إذ “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!”. بيدأن إكراهات الحياة، والصراع حول المصالح فيها، يفتح المجال على مصراعيه من أجل مختلف أشكال بسط الهيمنة والتسلط على الرقاب، سواء تجاه الأفراد بعضهم البعض، أو من طرف المؤسسات تجاه الأفراد، سواء كانت مؤسسات سياسية أو دينية أو غيرها. وغني عن البيان أن للحرية أبعادا مختلفة؛ ميتافيزيقية واجتماعية وسياسية وغيرها. وهي ترتبط بكل مناحي الحياة الإنسانية، وهو الأمر الذي جعلها محل اهتمام من طرف الجميع؛ أفراد ومؤسسات، أدباء وفنانين، علماء ورجال دين، مفكرين وفلاسفة.
انطلاقا من هذا الاعتبار، نجد المبدع محمد الشايب، كأديب وقاص، يقارب مفهوم الحرية من زاوية أدبية وسردية في قصته الموسومة ب “شارع الحرية”، والتي تندرج ضمن مجموعة قصصية تحمل عنوان “الشوارع”، وقد صدرت في طبعتها الأولى سنة 2016، وبدعم من وزارة الثقافة المغربية، عن دار “سليكي أخوين” الكائنة بعروسة الشمال طنجة. ولذلك، سنعمل في هذه الورقة المقتضبة على الوقوف عند مختلف أبعاد ودلالات مفهوم الحرية، كما عملت القريحة الأدبية للقاص محمد الشايب على تصويرها والتعبير عنها في قصة “شارع الحرية”، انطلاقا من تجربته المعيشية والحياتية.
تجدر الإشارة أولا إلى أن محمد الشايب هو قاص مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو جمعية النجم الأحمر للتربية والثقافة والتنمية الاجتماعية، وهي جمعية نشيطة وفاعلة في حقل العمل الجمعوي الثقافي بمدينة مشرع بلقصيري، أو مشرع ابن القصيري كما يحلو للبعض أن يسميها. هذه المدينة التي ولد فيها المبدع محمد الشايب وترعرع، لكي تضطره ظروف العمل بعد ذلك للابتعاد عنها إلى مدينة القنيطرة، دون أن ينسى زيارته لها كلما سنحت الفرصة لذلك. كما تجدر الإشارة إلى أنه يوجد شارع بمدينة مشرع بلقصيري يحمل عنوان “شارع الحرية”، وهو من أبرز شوارع المدينة نظرا لشساعة فضائه المؤثث بالعشب والورود والأضواء، وإن كانت يد الإهمال تطاله في الكثير من الأحيان. وتزداد أهمية هذا الشارع بالنسبة لساكنة المدينة في فصل الصيف، حيث ترتفع درجة الحرارة فيصبح متنفسا بالليل للأفراد الذين بقدر ما يفرون إلى هذا الشارع هربا من حرارة البيوت، فإنهم يجدون فيه حرارة أخرى مرغوبة هذه المرة، وهي حرارة المشاعر وتبادل أطراف الحديث واسترجاع الذكريات، فضلا عن ممارسة البعض، لاسيما الأطفال والشباب، لمختلف الألعاب والأنشطة المسلية. انطلاقا من هذه، الاعتبارات أفترض أن هذا الشارع الكائن بهذه المدينة الغرباوية الصغيرة هو الذي أوحى بالدرجة الأولى إلى القاص محمد الشايب بتدبيج قصته الموسومة ب “شارع الحرية”، والتي هي القصة الأولى من المجموعة القصصية “الشوارع” التي تتكون من إثني عشر قصة. ومبرر هذا الافتراض طبعا، هو أن هذا الشارع هو جزء من ذاكرة محمد الشايب الذي عاش بالمدينة زمنا ليس بالقصير، وتابع دراسته في مؤسسة تعليمة محاذية لهذا الشارع. غير أن هذا الأمر لا يمنع من أن دلالة “شارع الحرية” تتجاوز هذا الفضاء الخاص بالمدينة المذكورة، وتنفتح على أبعاد إنسانية شاسعة ورحبة، مادام أن الجميع يهفو إلى الحرية، ويبحث بإلحاح عن الشارع المؤدي إليها.
إن الحرية في “شوارع الحرية” بعيدة المنال، ولذلك نجد القاص يناديها قائلا: “أيتها البعيدة”. فالوصول إليها ليس بالأمر الهين، خصوصا وأنه “لا يقاسمني وحشة الطريق رفيق”. وهذا يظهر أنه بالرغم من أن الحرية مطلب جماعي وسياسي، فإنها أيضا مطلب فردي وسيكولوجي. ولذلك، فالفرد مطالب نفسه بتحرير ذاته من مختلف القيود التي تكبله، بغض النظر عن وضع الحرية الذي تعيشه الجماعة التي ينتمي إليها. فالفرد مدعو إلى التحرر من أنانيته ونوازعه الطبيعية والغريزية، قبل أن يكون مدعوا إلى التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية.
إن شارع الحرية ليس شارعا واحدا في الحقيقة، بل إن “الشارع شوارع”. ولذلك، فالطريق المؤدي إلى الحرية ليس واضحا ومعبدا، بل إن الطرق المؤدية إليها متعددة ومتنوعة، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تيهان الفرد الباحث عنها، خصوصا وأن تصورات ورؤى الأفراد تختلف حول ما الذي قد تعنيه الحرية بالضبط؟ وما هي الوسائل الكفيلة بتحقيقها؟ وأين تنتهي حريتي لكي تبدأ حرية الآخرين؟
لقد سعى القاص الشايب إلى البحث عنها في الأسواق والملاعب، لكن أنى له الظفر بها، وهي البعيدة بعيدا جدا، والطريق إليها موحش، متشابك، وأمواجه متلاطمة. وكل هذا يؤدي إلى الحيرة والضياع والتيهان، لأن السؤال: “أين أنت؟” أيتها الحرية، لم يظفر فيه السائل بجواب شاف، سوى بالغرابة وهواجس الذات، خصوصا وأن رسول الحرية “لا هو حمل الرسالة، ولا هو أتى بالجواب”!
يبدو جليا أن القاص يقدم تصورا سيزيفيا للحرية، إذ بقدر ما يقترب منها الفرد فإنها تبتعد عنه، فالإنسان حر وغير حر، مما يعني أن الظفر بالحرية يظل نسبيا، ويظل الأفراد مطالبين دوما بالتحرر من القيود الجسدية والنفسية والاجتماعية والثقافية من أجل تحقيق حرية الذات. كما أن تصوير القاص للحرية يمتزج بألفاظ توحي بمعاناة نفسية لصاحبها إزاء مطلب الحرية، فهذه الأخيرة ترتبط عنده بشبكة معجمية من قبيل: البعد، الحيرة، الوحشة، التوجسات والهواجس، الأحزان والجراح، الغربة والتيهان، وما شابه ذلك. لكن إذا كان الطريق إلى الحرية شاقا ومتعبا وموحشا، فإن القاص مع ذلك يصر على المضي قدما فيه، لأنه لا خيار له سوى مواصلة السير؛ لأنه بالرغم من أنه لا تملأ فراغاتي سحب ماطرة”، فإنه مع ذلك “أناشد ذاك المطر المؤجل أن يهطل”. وهذا يدل طبعا على شوق الذات وحنينها الدائم للعيش في كنف الحرية، لأنها أساس الكرامة البشرية وهي “حق الحقوق”، مادام أنه لا معنى أن نتمتع بأي حق من حقوق الإنسان دون أن نكون أصلا أحرارا.
لكن الحرية ليست فقطا شعورا ذاتيا، أو إحساسا داخليا، بل إنها أيضا سلوك أخلاقي واجتماعي. ولذلك، نجد القاص الشايب يصور الحرية وهي متجسدة بأشكال مختلفة ومتعددة في الأماكن والشوارع وفي أفعال الأشخاص. ففي شارع الحرية هناك مشردون، ومجانين، وعشاق، وناس يلهثون تحت ضغط إكراهات المعيش اليومي. فالكل يلبس “ما يريد أو ما يُراد له!؟”، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أنه بالرغم من أن الناس يعتقدون أنهم أحرار، إلا أنهم في الحقيقة ليسوا كذلك، مما يجعل الحرية أحيانا مجرد وهم! ولعل هذا هو ما جعل الفيلسوف اسبينوزا يذهب إلى أن “الناس يعتقدون أنهم أحرار، إلا أنهم يجهلون في الحقيقة الأسباب الخفية المتحكمة فيهم”. وهذه الأسباب الأخيرة هي التي عبر عنها سيغموند فرويد بالدوافع الباطنية المكبوتة واللاشعورية، والتي غالبا ما تقف وراء معظم سلوكات الأفراد وأفعالهم.
يقدم القاص تصورا أيضا للحرية في بعدها النضالي والسياسي، والذي غالبا ما تتجسد من خلال المطالب والاحتجاجات التي تعبر عنها فئات طبقية أو عرقية أو دينية أو مهنية، لأولائك الذين “يحتشدون، ويرددون الشعارات، يلعنون اللصوص والاستعمار والصهيونية، وينادون بالتغيير”. فها هنا نحن أمام إشارة أولى إلى الرغبة في التحرر من الفساد الإداري والاقتصادي والاجتماعي، وإشارة ثانية إلى التحرر من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، وإشارة ثالثة إلى الرغبة في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني الغاشم.
وإذا كانت الحرية هي الغاية والمبتغى، فإن قصة “شارع الحرية” تصور لنا بحث الإنسان الدائم عن الحرية، خصوصا وأن الأمر لا يتعلق فقط بشارع واحد بل بعدة شوارع مؤدية إلى الحرية. وهذا يدل أولا على حرية كل فرد في تجسيد حريته وممارستها بالشكل الذي يريد، وطبقا طبعا للقوانين المتعاقد عليها بين الأفراد، مادام أن الدولة تسهر على تطبيق قوانين العقد الاجتماعي، ومادام كما يرى اسبينوزا أن “الحرية هي الغاية من وجود الدولة”، كما يدل ثانيا على أنه لا توجد حرية متجلة على نحو مطلق، بل ما يوجد هو مسار دائم للفرد من أجل التحرر من القيود التي يرزح تحت نيرها، سواء كانت قيودا تقبع داخل ذاته أو توجد خارجها في المحيط الاجتماعي. فالفرد يوجد دوما وسط عدد لا حصر له من القيود والإكراهات والضغوطات، وما يمكنه فعله هو العمل بشكل مستمر على التحرر منها من أجل صنع الحرية التي ينشدها. ولهذا السبب، فإن الحرية فن من فنون العيش، أي أنها إبداع ذاتي للفرد، ومن هنا تعدد أشكالها وتجلياتها على مستوى حياة الأفراد والمجتمعات.
تتخذ الحرية في بعض مقاطع قصة “شارع الحرية” للقاص محمد الشايب، بعدا نفسيا وعاطفيا، إذ تغدو أنثى معشوقة يتم البحث عنها دون جدوى، إذ أنها بمثابة ذلك الحب الضائع والبعيد، أو ذلك “الصوت صوت البعيدة بكل المعاني”، إنها ذلك النبع المائي الذي يحن الظمآن إلى الارتواء منه، أو ذلك الظل الذي يسعى إلى الاحتماء به من شدة الحر، دون أن يتأتى له ذلك. إن الحرية بهذا المعنى أنثى، تحمل في طياتها كل معاني الدفئ والحب والسعادة والأمن والاستقرار، والخصب والازدهار. لكن الطريق المؤدي إلى شارع الحرية مجهول، فهي بدون أرض أو وطن أو عنوان، وما أصعب أن يعشق المرء حرية بدون عنوان!؟ يتجسد هذا اللهث الدائم بحثا عن الحرية في السؤال عن شارع الحرية؛ “سألت الأول، فقال عرج عن اليمين، فعرجت”، ولم أجد الشارع. “وسألت الثاني، فقال عرج على اليسار، فعرجت”، ولم أجده. “وسألت الثالث: فقال سر في نفس الاتجاه، وسرت…” لكني لم أجد شارع الحرية أيضا. لقد قطعت أشواطا وأشواطا، وسلكت دروبا ودروبا، لقد “تاهت خطواتي تبحث عن شارع الحرية..”.
لعل ربط الحرية بالشارع في قصة “شارع الحرية”، يدل على أن الحرية ترتبط بحياة الكائن البشري بكل أبعادها، الميتافيزيقية والسيكولوجية والقيمية والسياسية وغيرها، كما يدل على ارتباطها بالسفر والرحيل والبحث الدائم الذي لا يعرف التوقف. فشارع الحرية هو شارع الحياة، والحياة نهر متدفق لا يمكن الاستحمام فيه مرتين على حد تعبير هيراقليطس، ولذلك فالشعوب والأفراد تصنع حريتها بشكل متواصل ومبدع، إذ لا توجد وصفة جاهزة لما تكونه الحرية، بل إنها فن حياة يعاش بكيفية ذاتية وإبداعية. إن “الكل في سفر” بحثا عن الحرية وعن الشارع المؤدي إليها، أما أنا “لا أنا وصلت، ولا أنا ذهبت، تركت نداءات السفر تتعالى، واستأنفت رحيلي”. والمسافرون الراحلون بحثا عن الحرية يحملون “تارة حقائب الفرح، وتارة حقائب الحزن”، وهم هائمون على وجوههم في دروب البحث، بعضهم يصل وبعضهم يذهب، إذ هذا هو حال الدنيا؛ فيها الطالع والنازل.
وإذا كانت الحرية شوارعا وليست شارعا واحدا، فإن الناس ينشدونها ويجسدون تصورهم لها في ميادين ومجالات وممارسات مختلفة؛ في أسفارهم وألعابهم وملاهيهم وأشكال ترفيههم عن أنفسهم، وفي مساجدهم وأضرحتهم وشعائرهم وعاداتهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية، وفي مدارسهم ومعاهدهم ومؤسساتهم العلمية والتربوية.. بل وفي أنشطتهم الرياضية والسياسية والحياتية بصفة عامة. فالحرية سعادة وحياة، والبحث عنها مضني وشاق، ومسترسل ومتواصل، لأنها تظهر وتختفي، إذ ما إن نظن أننا حققنا حريتنا، حتى تظهر عراقيل ومعوقات تحول دون تمتعنا بها، وهي معوقات شتى فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية ونفسية وغيرها، يتعين النضال بشكل دائم من أجل تكسيرها والتغلب عليها، من أجل صنع الحرية التي ننشد.
بعد البحث الشاق والمضنى عن “شارع الحرية”، في كل المسالك والدروب والاتجاهات، تنتهي بنا القصة إلى أنه “لا يوجد في هذه المدينة شارع للحرية!”. والغريب أن مدينة مشرع بلقصيري، مسقط رأس القاص محمد الشايب، يوجد بها شارع مشهور يعد من أبرز شوارعها يسمى شارع الحرية. ولعل هذه مفارقة تحمل دلالة أكيدة على أن مدينتنا الصغيرة خاصة، والوطن العزيز عامة، يفتقدان إلى المقومات والشروط الأساسية التي تجعل الناس يعيشون الحرية والكرامة ويبرزون طاقاتهم الإبداعية في الخلق والإبداع والابتكار، إذ غالبا ما توضع الأصفاد والقيود والعراقيل التي تمنع من ذلك. ولهذا، فالنضال بمختلف أشكاله وأنواعه ومسالكه هو ما من شأنه أن يزيل تلك القيود، ويبدد الضباب بحثا عن الشارع أو الشوارع المؤدية إلى الحرية!
*المصدر: التنويري.