المشهد العالمي:
يوضح المشهد الراهن للعالم أن معادلات السياسة قد تغيرت بصورة تبدو جذرية لدرجة تجعل الوقت يحين للتفكير في مجمل نظريات العلاقات الدولية، وفي العلاقة بين عمليات العولمة، والعولمية، ووسائط الإعلام، والسياسة الخارجية، وإدارة الدبلوماسية. فالعالم تتم عولمته بسرعة فائقة، إنه نظام جديد متعدد القطبية، أكدت عليه حروب العقدين الآخرين في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا واليمن، أو ما يمكن أن نسميه بالبدايات المؤسسة لهياكل العلاقات في عالم القرن الحادي والعشرين. “ومقارنة بالأمس”، على رأي جون شاليكاشفيلي: “فقد أصبح بيئة في حالة ميوعة شديدة التعقيد”.[1] إذ زأدت معالجات العولمة من نفوذ اللاعبين من خارج الحكومة، وهنالك مجتمع مدني يتم أنشاؤه أمام أعيننا بقواعد لعبة مغايرة لما عهدناه. بمعنى آخر، فقد أعطت نهاية الحرب الباردة إشارة بحركة تحول عميق لدور الدولة في المجتمع العالمي، وانْقَضَّت عمليات العولمة على محددات سيادتها بلا رحمة. وبالتالي، فقد أخذت فكرة العولمة الموقع المركزي في توجيه مسارات الدول وتكييف بدائل أنساقها؛ ومن البديهي أن السبب المباشر هو ثورة الاتصالات. لقد خلقت وسائل الاتصال والكومبيوتر مجتمعاً متشابكاً بصورة فريدة، تكمن مفارقته في أن الواقع، وكذلك الإنسانية، ينموان بصورة متوحدة ومتجزئة في نفس الوقت. فبينما يتجزأ الواقع المباشر؛ من الأسرة وحتى الدولة، ينمو الواقع العولمي بصورة متزائدة، وذلك بامتصاص الفرد، في عالم يحتويه وأحياناً كثيرة يدهشه، وتلجأ الأجيال الجديدة للاحتماء بملاذات افتراضية هشة. وقد تم التحول في الإستخدام اللغوي من عالمي إلى عولمي بسرعة فائقة، حتى أن التنظير في الترتيبات، أو تقدير الفرص والتحكم في التحديات، قد تمت السيطرة عليه بواسطة المتحمسين لهذا “الشبق” الافتراضي الجديد؛ كما أنه من المستبعد أن تلحق النظرية بالركب، أو تناظر سرعة ضغوط الواقع، واضعين في الاعتبار ضغط البراغماتية على الحركة الكلية للعولمة.[2]
ويتردد علماء الاجتماع عادة في الاعتراف بدور الأفكار والمعتقدات في إنتاج التغيير السياسي، ربما لأن مثل هذا النوع من الإيضاح يبدو سهلاً وبدهياً، كما أشار أحد المختصين بقوله “إن كثيراً من الطاقة التنظيرية قد تم صرفها في إيضاح أنه ليس ضرورياً معرفة كيف يفكر العاملون في مجال صناعة السياسة لتفسير الطريقة، التي سيتصرفون بها.”[3] إن العوامل المعنوية مثل الأفكار، والمعتقدات، والثقافة، يتم استثارتها كمصدر أخير لإيضاح مقبول فقط عندما يتم استنزاف البدائل الأخرى: و”إذا كانت المحاذير الدولية، والمصالح الاجتماعية، وإمكانيات الدولة، يمكن عرضها لتحديد خيار سياسة ما، فإن المنظور الفكري يكون زائفاً”.[4] وبذلك، فإن التحدي أمام هذا النوع من الدراسات هو شرح كيف يمكن للأفكار أن ترتبط بمصالح مادية. ومهما يكن من أمر، فإن بعض الأعمال الحديثة في الاتصال السياسي تعطى دوراً مستقلاً مهماً للأفكار، خاصة في عالم اليوم المتعولم. إذ إن الصور والمعلومات لا تبدى كثير احترام للوقت، أو الحدود، فقد أفسحت الهرمية الطريق أمام الشبكية، أو “الشبكآنية”. وقد دفع الإنفتاح بالسرية والإنفرادية بعيداً، وتأسس للفردانية الأنانية فضاء جديد أوسع بكثير من خصوصيتها الغربية. فالأفكار كرأس المال يمكنهما العبور بسهولة ودون اعتراض، وغالباً ما يكون ذلك عبر شبكة من الحكومات، والمؤسسات، والمنظمات غير الحكومية. ففي عالم اليوم ذي المعلومة اللحظية، تصارع وظيفة مثل الدبلوماسية التقليدية للمحافظة على معنى وجودها،[5] فهل تجده؟
إن هذا السؤال الخاطف لا يطلب إجابة في الوقت الراهن، لأنه، ونتيجة للزيادة المتنامية في معارفنا، فإن الحقائق تُظْهِر أن العالم يتغير بشكل صامت ولكنه سريع، ويمكن لهذا التغيير أن ينشئ مجالات اتصالية جديدة تعتمد بشكل أساس على حقائق الكون، ومواضعات الحس المشترك، وتكون في نفس الوقت نظرية، وتركيبية، ومنظومية، وكونية، في مادة موضوعها، حتى ولو تعلقت بالدبلوماسية؛ تقليدية وحديثة. فنحن نعيش في بدايات القرن الواحد والعشرين الميلادي. ربما لا يمثل ذلك معنى معيناً باستثناء كونه معبراً عن تقدم التاريخ الإنساني، أو دليلاً على التقدم الكبير في العلم والتكنولوجيا، الذي تضاعف بمعدلات فلكية عَمَّا كانت عليه وتائر التقدم في العقود والقرون السابقة، والتوقعات تُبشر نقلات لا قبل لنا بتصور سرعة مدياتها. ولكن عند التفكير بعمق فيما حدث، يمكن للمرء أن يتبين بيسر أن العقد الأخير من القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين تتسم بتحولات عميقة وجذرية للإنسانية ككل، سواء على المستوى العلمي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، أو الفلسفي، غير مسبوقة. هذه التحولات الجذرية تجعل من المشروعِ لنا أن نصنف هذه الفترة باعتبارها بداية لحقبة جديدة في تاريخ الإنسانية لا نزير له في سابق عهودها. وإذا كان ما يميز المرحلة السابقة، كما هو معروف، هو إنها حقبة المركزية الغربية، فإن السمة الأساسية المميزة لهذه الحقبة الجديدة، التي ندخلها حالياً، هي إيديولوجية العولمة، أو العولمية، التي وإن بدت الغلبة فيها للغرب، فإن صعود مراكز جذب اقتصادي وتكنولوجي جديدة تهز ثقته في الاستمرار في تربع عرش القيادة العالمية. لذلك، نحن الآن في بدايات قرن مختلف نعيش فيه حالة اضطراب التوازنات في العلاقات الدولية، فهو قرن، وإن كانت بداياته ذات قيادة قطبية واحدة، ولكنه متعدد الثقافات، ويتجه لأن يكون متعدد الأقطاب.
إن هذه الحالة الجديدة، التي يمر بها العالم حالياً، هي نتيجة لثلاثة تطورات مرت، ولا تزال تمر بها الإنسانية، هي “مابعد الحداثة”، و”ما بعد الاستعمار”، و”العولمة”. وفي عالم اليوم، على الرغم من أن الحضارة الغربية لا تزال مسيطرة، إلا أن الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتفرد للثقافات الإنسانية المعاصرة هو أمر يجب أن يكون مسلماً به. على هذا الأساس، فإن الاختلافات في النظرة إلى العالم، وفي أساليب الحياة، وفي منظومات القيم، وفي الاعتقادات، هي أيضاً يجب الاعتراف بها على أساس إنها حقيقة واقعة. وهذا الاعتراف يفرز آثاراً عميقة على كافة جوانب الحضارة الإنسانية المعاصرة، بدءاً من فهمنا لطبيعة العلم والتكنولوجيا ودورهما في تقدم الإنسانية، مروراً بفهمنا للاختلافات في أنظمتنا الاجتماعية والسياسية، وأنتهاء بفهمنا لمعنى أن تمثل الإنسانية مجتمعاً واحداً متعولماً، وفي نفس الوقت، تتكون من عدة ثقافات متميزة ومتفردة. وهذا التعدد الثقافي، ضمن حقيقة عمليات العولمة الكاسحة للفوارق بين التقديرات القديمة لحدود الثقافات الزمانية والمكانية، يمكن أن يفهم سلبياً وأيجابياً في ذات الوقت. ففي جانب الفهم السلبي له، يمكن اعتبار الثقافات منفصلة، ومنعزلة ومتصارعة في محاولة لإقصاء بعضها البعض. أما في الفهم الأيجابي له، فينظر لهذه الثقافات المتعددة على أنها تمثل مع بعضها البعض بيئة حافزة نحو الخصوبة الفكرية الإنسانية من خلال تنوع نظيراتها في العالم، وفي حالة تنافس إيجابي نحو الإبداع وتقدم الإنسانية نحو آفاق جديدة، لا تشوبها خصيصة الصراعات.
نعم للتنوع:
وهذه الدراسة تتبنى، بغير كثير تردد، هذا الموقف الأيجابي الثاني، ليس انطلاقاً من أرضية يوتوبية رومانسية، وإنما من فهم وقبول واقعي عقلاني بخصائص الطبيعة الإنسانية، التي تقبل التنوع وترفض الهيمنة. فما يؤخذ من مثل هذا الموقف هو أنه يضع عبئاً على النجاح في التنافس الأيجابي في إنتاج المعرفة الإنسانية على كل الثقافات الإنسانية الكبرى المعاصرة. وإذا كانت الحضارة الغربية المعاصرة لا تزال مسيطرة على الفعل العسكري والاقتصادي الراهن، فإن الثقافات الكبرى الأخرى، مثل الثقافات الصينية واللاتينية والهندية والأفريقية، وكذلك العربية والإسلامية، مواجهة بمهمة صعبة، هي إثبات قدرتها على الوجود والمشاركة في تقدم المعرفة في عالم يتعولم بسرعة فائقة. فالعلماء والفلاسفة والمتخصصون، في كل من هذه الثقافات، يتحملون مسؤولية تجاه الإنسانية تتمثل في التفاعل الإيجابي والمشاركة البناءة في الفكر الإنساني المعاصر، وفي بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة، وما الدبلوماسية هنا إلا حمالة معانٍ مؤكدة لضرورات التكافؤ في العلاقات الدولية.
كما هو مستخدم في العالم الحديث، اكتسبت فكرة الثقافة السمات الرئيسة لمعناها المتداول اليوم في القرن التاسع عشر. وبما أننا جميعاً نعيش حياتنا من حيث التعريفات والأسماء والفئات، التي تخلقها الثقافة، نلجأ باستمرار للاحتماء بما يميزنا فيها. وإذا قلنا إن التاريخ الفكري للعصر، الذي فيه أفكار متعددة عن الثقافة، قد تم تطويره في حوالي القرنين التاسع عشر والعشرين، على التوالي، فهناك عدد من الأشياء التي تتضمنها الثقافة، مثل المعرفة، والاعتقاد، والفن، والأخلاق، القانون، العادات، إلخ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتعريف الثقافة، التي يكتسبها الإنسان، وتبين له أهمية الإنجاز الفكري. ومع ذلك، ووفقاً لهذا الرأي، فإن الحضارة هي نتيجة عقلانية للتقجم، الذي يعتقد الإنسان أن ذلك يؤدي إلى التحسين العام للحياة. إنه ليس شيئاً يولد مع الناس، لكنهم يكسبونه شيئاً فشيئاً من خلال التفاعل الاجتماعي العادي. لذلك، من الأفضل التفكير في الثقافة كمورد؛ مثل الموارد الأخرى، كالطاقة والغذاء والهواء، وما إلى ذلك، ولا يمكن أن تنتمي حصرياً لأي فرد معين، أو مجموعة من الأفراد، وإنما يجب أن تكون لجميع المجموعات والأفراد حق الوصول إليها، على الأقل، بعض تلك الموارد، التي لا بد منها لأغراض البقاء. وبالمثل، فإن الثقافة هي نوع من المعلومات التي لم يولد بها البشر ولكنهم يحتاجون إليها للتفاعل مع بعضهم البعض في الحياة الاجتماعية، وينبغي عليهم تعلمها خلال عملية التعليم الطويلة والتنشئة الاجتماعية، التي تضمن النضج والتقدم في العمر.[6]
وهذا التفاعل الأيجابي يفرض الإنفتاح تجاه التقدم المعاصر في وسائل الاتصال، كما يفرض هضم هذه المعارف وطرائق التعامل معها وبها، ثم في النهاية تقديم تصورات أصيلة جديدة تساهم في تقدم وتطور العلاقات الإنسانية عن طريقها. والدبلوماسية هي بكل تأكيد واحدة من الآليات الكبرى، وتتحمل بصفتها هذه المسؤولية عن المشاركة الفاعلة في الاتصال الإنساني المعاصر، من خلال هذه السمات الأساسية للمشاركة، والإنفتاح، والاستيعاب، والإبداع. وأحد القنوات الأساسية، في عالم اليوم، للتواصل ما بين الشعوب بدون شك، هو فضاء المعلوماتية. وعلى الدبلوماسية، من خلال هذا الواقع، أن تقوم بمحاولة المشاركة في تحقيق المتطلبات الضرورية للمشاركة الأيجابية في عالم اليوم المتعولم.
فقد أظهرت كثير من الفرص والتحديات، وحتى الأزمات، التي مرت بالعالم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبداية هذا القرن، وبشكل درامي، الترابط الداخلي القائم بين أجزاء العالم المتعولم، والانكشاف الآخذ في التزايد للدول/الأمم. وتراخي الحماية، التي توفرها قواعد السيادة، وما كان يحكم العلاقات الداخلية والخارجية من مواضعات هذه “السيادة”، وما يترتب على ذلك من تغيرات في طريقة وضع وإنفاذ السياسات الداخلية، وتخطيط صناعة السياسة الخارجية، والالتزام بنهج عمل الدبلوماسية التقليدية، وقياس الفعل الإعلامي، ونظرية وضع الأجندة في كل هذه الآنشطة، التي كانت من صميم عمل الدولة. وتحسب كل التحولات الحادة، والتي تتبدى في مجمل نظريات العلاقات الدولية، إلى التداعيات المقصودة، وغير المقصودة لظاهرة العولمة. فقد كان العالم بحاجة إلى قيادة تروج لنمط من التنمية أكثر عدلاً ومساواة، فالقيادة الملتزمة بالتنمية الإنسانية، هي الضمانة الحقيقية لقبول فكرة العولمة، وليس فكر العولميين، الذي إن تمادى في محاولات التعدي القسري على سيادة الدولة القطرية، قد تدفع جميع الدول ثمن اضطرابات احتجاجية؛ بدأت طلائع شعاراتها في الإرتفاع، وتجلت مقدماتها في أكثر من محفل، وتنذر بثورة هوجاء لا تبقي ولا تزر، قد تندلع في المستقبل.
رؤية خلدونية:
لقد كان إبن خلدون، العالم الإسلامي والمفكر الاجتماعي المعروف، هو، الذي أمَّنَ، قبل قرون؛ على أنه ليس في إمكان الفرد تأمين كل ضروريات حياته دون التعاون مع شخص آخر، وقال الشاعر: الناسُ بالناسِ من بدوٍ وحاضِرَةٍ بَعْضٌ لِبَعْضٍ وإن لم يَشْعُروا خَدَمُ. لذلك، أشار إبن خلدون في نظريته عن التنظيم الاجتماعي، وفي مناقشته للهوية الثقافية والعلاقات الدولية: “أن النظام المثالى بين الأفراد المتعاونين في مثل هذه المنظمة، كالمجتمع العالمي، الذي يمكن أن يوجد فقط عندما يتم حكمهم بالعدل في شكل نفوذٍ كابحٍ يحفظهم من التهام بعضهم بعضاً”.[7] ووجدت تطورات وإفتراضات لاحقة لوَّنَت أفكار إبن خلدون، الذي وضع الإنسان في مركز العالم، كما شكَّل نصوص ومناهج التلاقح الثقافي والدراسات العالمية، وبذلك بدأ حقل جديد من حقول المعرفة في الظهور، وهو دراسة العلاقات الدولية، الذي كان للمدرسة السياسية الأمريكية الدور الأبرز في الترتيب النظري له.
بيد أن هناك من يرجح أن فكرة العلاقات الدولية، إذا كانت تعني “النظام الدولي”، فهذا يحتم علينا إعادة النظر في أصلها، إذ تقول “عائشة زاراكول” إن الأوروبيين لم يكونوا أول من أنشأ أنظمة دولية ذات تطلعات عالمية.[8] آخذة في الاعتبار أن مناطق آسيا وأوراسيا لم تنفصل عن بعضها البعض حتى وصول الاستعمار الأوروبي، كما يُفترض عادة؛ لطالما كانت القارة مساحة متصلة، لها تجاربها الخاصة في السيادة وبناء النظام العالمي. فهناك الكثير من المعتقدات الخاطئة حول آسيا وأوراسيا، كما هو الحال حول أفريقيا وأمريكا الجنوبية. فثلاثتها قارات شاسعة، وليست مترابطة كما يمكن أن تكون اليوم، حتى في ظل التقنيات الحديثة. وبالتالي، تقول “زاراكول” إن هناك افتراض سائد داخل الأوساط الأكاديمية وخارجها بأن آسيا كانت دائماً قارة مجزأة، وينبع هذا الاعتقاد جزئياً من الفكرة القائلة بأن مناطق آسيا المختلفة، كما هي متصورة حالياً؛ شرق آسيا، وآسيا الوسطى، وجنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، وغرب آسيا (الشرق الأوسط)، وشمال آسيا (عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي، أو أوراسيا)، المجالات الطبيعية القائمة بذاتها للنشاط البشري السياسي والاقتصادي والاجتماعي… “وبالتأكيد، يجب أن يتطلب الاتصال خارج هذه المجالات جهداً خاصاً.”[9]
ولنا أن نتفق مع “زاراكول” أنه “ربما لهذه الأسباب”، مال الأوروبيون إلى تَخَيُّل أن آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مجزأة وفق مواردها، لا بحكم تَوَزُّع شعوبها، وأن هذه القارات المجهولة كانت دائماً مجزأة للغاية. لذلك افترضوا، وما يزالزن يفترضون أنه لم يكن سوى توسع القوى الأوروبية في آسيا، وكذا أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وإنشاء نظام دولي حديث يربط الجهات الفاعلة المحلية بالآخرين خارج مناطقهم وشواطئهم. وما زعم غزوات “التنوير”، وما لحق بها من استعار استيطاني، إلا بعض من هذا الإفتراض الجزافي. ومن هنا، فإن حجة “زاراكول” تقول إن المعتقدات حول التشرذم، الذي يبدو طبيعياً ودائماً تاريخياً لآسيا كمساحة سياسية لا تزال غير مدروسة نسبياً، ونضيف إليها أن هذا حال أفريقيا وأمريكا اللاتينية كذلك. ونقول إن بقاء هذا الافتراض حياً يوكد أن خروج المستعمر المادي من المستعمرات التاريخية، لا يعني أنه قد خرج معرفياً. فالمعتقدات السائدة ما تزال تستقي طروحاتها من مذاهبه، وعبر مناهجه، وهذه المعتقدات لها آثار كبيرة على فهمنا للتطورات المعاصرة في العلاقات الدولية.
إن الغرب التاريخي والمعاصر يرفض فكرة التنوع، التي يتحول فيها إلى جزء من معادلة أوسع؛ جغرافية كانت، أو ديمغرافية، أو معرفية، أو حتى في مجال النظرية. وعندما يؤسس لتجمع، كدول أمريكا “ذي أمريكاز”، أو الاتحاج الأوربي، فهذا هو التاريخ، الذي يؤسس للبدايات، ولكن عندما تنتظم الدول العربية في جامعة، والمسلمون في مجلس تعاون، والأفارقة في اتحاد، أو تنضم أجزاء مختلفة من آسيا في مسعى مشترك كالـ”آسيان”، فإن الغرب ينظر إلى ذلك كتقليد له، أو في أحسن الفروض يعتبره رابطاً جديداً، دون سابقة تاريخية. لذلك، يعتقد خطأ، أن مثل هذه العلاقات بين الدول غير الغربية، والواقعة على جوانب مختلفة من قارات العالم لم تكن لتتحقق لولا البنية التحتية لنظام دولي حديث أنشأته العبقرية الغربية. وتستند هذه الافتراضات إلى محو التاريخ الحقيقي للإنسانية خارج المركزية الغربية. ففي كتاب “قبل الغرب”، الذي ألفته “عائشة زاراكول”، وضح، أولاً، بأن المساحة الجغرافية، التي نسميها آسيا اليوم لها تاريخ متصل يعود إلى ما يقرب من ألف عام، إن لم يكن أطول. إذ إنه في القرن الثالث عشر، كان جزء كبير من القارة متحداً تحت حكم نفس السيادة المغولية، التي هي شبيهة بما تمثله الإمبراطورية الرومانية في التاريخ الأوروبي.
للنظرية دور:
إن التنوع النظري هو أن يكون التناول ذا قيمة، ويشمل جميع الحجج حول نظرية العلاقات الدولية؛ مجموعة ومتنوعة، ومأخوذة من مواقف نظرية قديمة وجديدة، وولا سيما التقاليد المهيمنة تاريخياً للواقعية، والليبرالية، والماركسية، وما هو شائع في المناهج الدراسية في الولايات المتحدة كالبنائية، التي تختلط عادة بمزيج متراكب من النظريات الأخرى. وهذا ما يجعلنا نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير من حيث الدفاع عن التنوع، وأن نضيف إلى هذه الأربعة المدرسة الإنجليزية، التي نشأت في العقدين الماضيين، والنظرية النقدية، وما بعد البنيوية، وتلك الأصوات النقدية القوية منذ الثمانينيات، ونتبعها بآخر نظريتين حديثتين نسبياً، واللتين تشكلتا فيما يعرف بنظرية “ما بعد الاستعمار” و”النظرية الخضراء”. وهذا لا يعني أننا نعطي مصداقية مطلقة لأي منها، أو حتى لها مجتمعة، ومع ذلك، فإننا لا نرغب في استبعاد التقاليد النظرية لكونها “غربية”، أو “قديمة”؛ في الواقع والحقيقة نحن نحتفي بالواقعية القديمة والجديدة، والكثير من عطاءات النظرية “المثالية”، التي لا يأتي ذكرها كثيراً في الممارسة الفعلية للعلاقات الدولية. ونؤكد على الأهمية، التي نوليها لهذين المنظورين النظريين الثريين؛ الواقعية والمثالية، بالإضافة إلى إدراك وجود خَطُ صَدْعٍ مهم داخل كل منهما. فالتنوع النظري، الذي هو موضع خلاف في الأكاديميا الغربية، فإنه مرحب به في الشرق، لأن الممارسة العملية تقوم عليه، خاصة في الدول العربية الإسلامية، والتي عُرفت باستعدادها للتبرع لأسباب إنسانية، خالية من الأجندة السياسية، وبما يصل إلى عشرين في المائة من دخلها الإجمالي. لذلك، فإن القيمة الإيجابية، التي نعلقها على التنوع النظري ليست مشتركة عالمياً، وأن التعددية النظرية لا تمكن فقط من معالجة القضايا القديمة بطريقة جديدة، ولكنها تفتح أيضاً أجندات جديدة تتحدث بشكل مباشر أكثر عن العلاقات الدولية المتغيرة والمتعولمة.
لهذا، يمر حقل العلاقات الدولية، وخاصة السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، اليوم بمرحلة إختبار ذاتي يحاول العلماء فيها البحث عن إتجاهات جديدة، وطرائق مبتكرة، تقف به عند مرفأ نظري وعملي آمن. وإذا أخذنا الماضي كمؤشر، فإن التوجهات التقليدية المألوفة، إضافة إلى بعض التنظيرات المعاصرة في هذا المجال، لن تكون مرشداً ملائماً لهذا البحث.[10]ومن الواضح أن الإعلام هو، الذي يضع الأجندة، بكل صنوفه القديمة والحديثة، أو أنه إعتاد على فعل ذلك، فيما يتعلق بقضايا الداخل والخارج، وكل ما يرتبط منها بالعلاقات الدولية. لذلك، فإن كثيراً مما اعتُبر القيمة المعيارية، أو الطريقة المحركة المعيارية للعلاقات الدولية، قد تم تشكيله وتلوينه، أو أعيد توجيهه بواسطة وسائل الإعلام في بلدانها، كما أن تطور شبكات الأخبار العالمية، وتحالفاتها السابقة، التي لم تكن معروفة في مجتمعات مغلقة حيث يكون معظم الإعلام عبارة عن منتجات وطنية تخص شعب أمة واحدة فقط،[11] قد أعيد تعريفه من جديد، وبطاقات دفع جديدة.
ورغم الحقيقة القائلة بأن نهاية الحرب الباردة قد أوجدت تحالفات جديدة، ولكنها خلقت كذلك بيئة جديدة لأعداء جدد. والأهم أنه صارت هناك مجالات أوسع للحصول على المعلومات، حتى قبل توسع وانتشار وسائط الإعلام الإلكترونية المستحدثة، بل صارت حتى الأماكن، التي لم يكن بوسع الصحفيين وصناع الأخبار زيارتها من قبل، متاحة الآن. ويبرهن إرسال أفواج من الصحفيين والمحررين إلى مهام صحفية، في أماكن لم يسمع بها أحد من قبل، وجود هذه السعة في الحصول على المعلومات. ومثلما هناك إعادة نظر تجتاح العالم، تتعلق بمن يتحدث مع من، ومن يتاجر مع من، وظهرت مصطلحات جديدة كالعولمية والعولمة، التي تؤشر على كثافة التقارب والنظام العالمي الجديد، والتي بقدر ما هي مفيدة لا تعدو كونها مجرد شعارات سياسية، بالنسبة للذين نالوا حظهم من ويلات حروب الخليج، وسوريا، وليبيا، والسودان، والصومال، والبوسنة، وكوسوفو، وأفغانستان، وما يعايشه الإثيوبيون، وما يجابهه الأوكرانيون بعد الغزو الروسي، وكل النكبات، التي جاءت لتفعل فعلها.[12]
إن هذه العوامل، وغيرها، تجعل الإهتمام بالطريقة، التي غطى بها، أو سيغطي بها الإعلام، السياسة الخارجية مثيراً؛ ليس فقط بالطريقة، التي تتدفق بها المعلومات خارجة للمتلقين، بل بالتغذية الإسترجاعية الناتجة عن ذلك بالطريقة التقليدية، وبالتفاعل التقني الآني عبر الإعلام الاجتماعي، على حد سواء.[13] وبعد ذلك، فإنه من الجدير بالذكر استعراض الكيفية، التي وصلنا بها اليوم إلى مفهومنا عن العالم وعن الأخبار العالمية. وبما أن الأخبار العالمية كانت تتبع تقليدياً أولويات السياسة الخارجية الضرورية؛ ودائماً ما تكون مدفوعة بالمصلحة القومية؛ سواء أكانت سياسية؛ اجتماعية؛ اقتصادية، أو عسكرية، إضافة إلى عدة عوامل تقوم على إهتمامات إنسانية غريبة،[14] إلا أن الواقع الآن يتغير لغير مصلحة هذه “الاستقامة” القومية، بعد التشتت، الذي أصاب الأفهام، وكَثَّف الأوهام، في عالم افتراضي مُسَطَّح ضاعت فيه جَبْرِيَّة الزمان والمكان. ومنذ بداية السياسة الخارجية، فإن الموجهات للطريقة، التي ترى فيها الصحافة المشهد العالمي قد جاءت من موقع الحكومة. إضافة إلى ذلك، فإن الأخبار العالمية كانت تتأثر بشدة بالتركيبة العرقية للأمة. وإضافة إلى تعريف العالم في صورة بعينها، فقد حسمت الحرب الباردة ما هو متاح، وما هو خارج دائرة الإهتمام، إما بواسطة السياسة الرسمية، أو عدم رغبة الجمهور. وهكذا، فإن أجهزة “رادارنا” لمراقبة بقية العالم قد تم تحويرها؛ فمعظم الشرق كان يُنْظَرُ إليه من موسكو بينما بقية الأقاليم غير متاحة وتعتبر قليلة الأهمية لأكثر القراء والمشاهدين في الغرب. أما الآن، فالغرب يبدأ من اليابان وكوريا الجنوبية عبر واشنطن، كما أن الشرق تتقاسم حساسياته فنزويلا مع كوريا الشمالية عبر بكين، وموسكو الجديدة تقوم بوضع فواصل مختلفة من “الستار الحديدي” داخل أوربا.
من يضع الأجندة؟
ويعلم الخبراء، ذوو المعرفة، بوجود معظم جمهوريات الإتحاد السوفيتى السابق، إلا أنه حتى القليل من الجمهور لم يمنح أية صورة واضحة عن مواقعها، دعك عن صورتها، وألْحِقَت بِرَكب “المهمشين” في أفريقيا وأريكا اللاتينية ودول آسيا المنسية. وهذا يعيد التأكيد أن الكثير من دول ومدن آسيا الوسطى كانت غير معروفة، وغالبها مجهولة إلى الآن، حتى لذوي التعليم العالي في الغرب والشرق. وقد لاحظ خبير العلوم السياسية “برنارد كوهين” بدقة أن السياسة الخارجية تضع الأجندة للتغطية الإعلامية التقليدية، ليس بإصدار الأوامر ولكن عن طريق التأثير القوي فيما يفكر فيه الناس.[15] إن العالم، الذي يراه الناس في الصحف وأخبار التلفزيون عالم مريح، يتم تعريفه عبر مصطلحات “نحن” و”هم”؛ مستخدمين بصورة طبق الأصل رموز اللغة الرياضية، مصحوبة بمعنى محدد “للرابحين” و”الخاسرين”. وقامت الصحافة بوضع مراسليها للشؤون العالمية في بلدان وأماكن تتطابق مع المواصفات، التي وضعتها الحرب الباردة، مع بعض المكاتب، التي أّعتبرت ذات أهمية إستراتيجية أكثر من غيرها، وفي كثير من الأحيان، لأسباب جيوبوليتيكية.[16] ومثلما عَرِفَ العالم لأول مرة مُدُنَاً في العراق وسوريا واليمن، وحتى “أم الأرانب” في ليبيا، جعلتنا وسائل الإعلام نتجول معها في أزقة “خاركيف” و”ماريوبل”، وحتى داخل سراديب مصنع “آزوفستال”، ومن دون أن يغمض لنا جفن عن متابعة تفاصيل ما يدور في “دونباس”، وكل أنحاء أوكرانيا.
إننا نجد؛ في معظم أنحاء العالم، أن هنالك القليل من المراسلين في عواصم دول العالم الثالث؛ إذا وجدوا، بينما تحظى أوربا، التي كانت في قلب الحرب الباردة، بنصيب الأسد من مؤسسات الصحافة الأجنبية. وكل ذلك يبدو منطقياً، إذ يوجد المراسلون في أكثر المناطق احتمالاً لحدوث الأخبار؛ أماكن معروفة باعتبارها مراكز للقوة في صراع الشرق والغرب. وفي هذه المناطق فقط، كانت تتم تغطية السياسة الخارجية، التي تغيرت الآن جذرياً نتيجة لنهاية الحرب الباردة، وبروز تحالفات جديدة، وصراعات وإثنيات جديدة، بالإضافة إلى عمليات العولمة، وتبديات وتعديات الأيديولوجية العولمية. لذلك، فإن ما كان مغطىً قد صار اليوم مفتوحاً، كما أن هنالك تحديات تتمثل في أولويات جديدة، وحدود جديدة لمؤسسات الأخبار وصانعي السياسة الخارجية معاً. نعم، صحيح أن نهاية الحرب الباردة قد أتت بتحالفات جديدة، بدعوى الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، إلا إنها في نفس الوقت قد خلقت مخاطر جديدة. فقد أصبح هنالك قدراً كبيراً متاحاً للحصول على المعلومات، والسفر إلى أماكن كانت خارج حدود اهتمام الصحفيين وصانعي الأخبار، لكنها أصبجت اليوم، كما أسلفنا، أكثر سهولة. إن إنتشار كُتاب التقارير الصحفية من الإعلام الإلكتروني والمكتوب هم الآن بالفعل في مهمات جديدة، وموجودون في أماكن لم يُسْمَع عنها من قبل، وتقف جميعها دليلاً على رحابة المجال الجديد المتاح. وبقدر ما أن هنالك إعادة ضبط في العالم حول من سيتكلم مع من، ومن يتاجر مع من، فإن مصطلحات جديدة دخلت حيّز الاستخدام؛ مثل، العولمة والعولمية، التي تشير إلى التواصلات الدولية، إضافة للنظام العالمي الجديد، الذي كان برغم ما رُوِّجَ لفائدته، وبالاً على السلام في العالم، إذ أُتخِذَ شعاراً لحرب الخليج، والصومال، والبوسنة، وكوسوفو، وأفغانستان، والعراق.
بالنسبة لوسائل الإعلام في عصر محاولات إعادة التوازن الدولي، فهنالك حاجة إلى غربلة واستخلاص مَعْنَىً للعالم بإجالة النظر في تصنيفات الأخبار للسياسة الخارجية، والدبلوماسية، والعلاقات الخارجية والتجارة، ودعمها عن طريق ابتداع تقارير خبرية جديدة، كانت في السابق بعيدة عن الآنظار، وبعيدة عن الإهتمام. ففي ذات الوقت، كان مفهوم العولمية في حد ذاته قد أعطى تفويضاً جديداً لنظام تغطيةٍ مختلفٍ للروابط الاقتصادية، إضافة إلى البيئية، والصحة العالمية والأوبئة، والمواضيع الموحّدة الأخرى. وبالمثل، فإن نظام الأشياء الجديد؛ إذا كان النظام العالمي الجديد، أو غيره، يعني أدواراً جديدة لمؤسسات قديمة، يحتاج إلى مراجعة لا تتخلف فيها العدالة عن إشراك أصحاب المصلحة في العالمين المتقدم والنامي، أو مثلما حاول اليونسكو أن يفعل عام 1978. إن التغييرات ذات الأبعاد الحقيقية في العالم، والنقلات الجذرية، التي جاءت مع إنهيار الشيوعية، والتصدعات في الخطاب الإنساني، قد تزامنت مع ثورة المعلومات والاتصالات. وذلك يعني اتصالات مباشرة، وتوحيد لوسائل الإعلام، جالبة الصحافة الإلكترونية والمطبوعة إلى بعضهما البعض في نسق علاقة تتكامل فيها الأدوار. وبعض النقاد يقولون بإنها أصبحت غير قابلة للفصل، وهذا أيضاً له إنعكاساته بالنسبة لتغطية السياسة الخارجية والأخبار العالمية. وبما أن ثورة المعلومات تعني حدوداً مفتوحة، فقد أصبح الأمر صعباً جداً بالنسبة للحكومات لإيقافِ اتصالاتٍ من دولةٍ أخرى تقوم بتلويث سمائها. وأكثر الدلائل وضوحاً في مشهد الاتصالات العالمية ما كان ملحوظاً في قدرة “السي أن أن” للوصول إلى أماكن بعيدة، وفي مثال شبكة الجزيرة في العالم العربى، وتلفزيون جنوب أفريقيا في أفريقيا، وتلفزيون ستار في آسيا، وغير هذه من الفضائيات، التي شكلت البدايات لما نشهده الآن من تزاحم آلاف المحطات غيرها، وملايين المواقع الإلكترونية، والتي تنافسها في بث الأخبار وصناعتها. إنها موجودة جميعاً في تلك الأماكن حيث يتم اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الخطيرة، وحيث يكون للقطر سفاراته الكبيرة ذات العاملين، الذين يحسب أنهم الأفضل من الإعلاميين.
الالتزام الاستراتيجي:
لقد كانت نهاية الحرب الباردة مهدداً بتغيير كل ذلك، ومن الصعب الآن التمييز بين الأقطار ودوائر النفوذ المهمة وغير المهمة. فالدول المسماة غير المنحازة لا تزال موجودة، ولكن عدا المصالح الاقتصادية، فليس واضحاً ماذا تمثل، أو تقف مع من، أو ضد من، أو لمن تنحاز، أو لا تنحاز. الأمر الأكثر أهمية، أن الأقطار والعواصم، التي كانت خارج حدود الإهتمام، أو يجد المراسلون صعوبة في الكتابة عنها قد أصبحت اليوم متاحة. يتزاوج ذلك مع شعور جديد بالعولمية، حيث يسود الاعتقاد بأن بعض الإحساس بتوحد، وتكامل المشهد العالمي مفيد، أو حتى ضروري، قد دفع بالعاملين القياديين؛ مثل الدبلوماسيين، للإعتراف بضرورة إعادة التفكير في ملفاتهم، ومواضع تركيزهم. وبينما يتأثر الإعلام بشدة بالسياسة الخارجية، التي لم يتم تعريفها بعد، فإنه بالرغم من ذلك قد اكتشف، ربما للمرة الأولى، بأن لديه الآن الفرصة لوضع أجندته الخاصة، لتحديد ماهو حقيقي بالنسبة له ولقرائه ومشاهديه، تحديداً قد لا يتوافق مع منظورات السياسة الخارجية كلياً.[17] وتشير العولمية، في الجانب الآخر، إلى أن التواصلات العالمية، خاصة الاقتصادية، مهمة للغاية، ووجودها حيوي للإعلام حتى يجد طريقة أدق تنظيماً لتغطية العالم. وبالرغم من أن هذا العمل يتم بمساعدة كبيرة من التقنية الحديثة من اتصالات عبر الأقمار الصناعية والإنترنتلايةتعريفها بعد سة الخارجية ، إلى الكميرات خفيفة الحمل، إلا أنها لاتزال تحتاج إلى إلتزام إستراتيجي نحو مواضيع ومناطق بعينها، إضافة إلى سخاء الناس والمصادر في إعطاء ما لديهم من معلومات.
يذهب الاعتقاد إلى أن الاتجاه الإعلامي الراهن ينصب حول “الأهتمام بالموضوع”، فبدلاً عن تغطية الشؤون الدولية بالتركيز على قُطْرٍ، أو إقليمٍ ما، هنالك تركيز على جوانب الاقتصاد، والصحة، والأسلحة النووية، وعدد آخر من الأفكار والقضايا المحورية “الدسمة”، التي تجعل للعالم تحت العولمية مَعنىً. وفي هذا المنحى، تكون العلاقات الدولية، والمنظورات ذات الأفق الواسع، ذات أهمية أكبر من قصة الأقطار منفردة. وهكذا بينما تقوم السياسة الخارجية بتنظيم كلا البعدين من خلال المنظمات العالمية، وعلى أساس منظور إقليمي، أو قُطري، فهي تعترف أيضاً بتشابك هذه الأفكار المحورية مع بعضها البعض. وبالرغم من ذلك، فإن الإعلام الآن في وضع أفضل يُمَكِّنَه من الحركة الرشيقة عبر هذه الموضوعات، دون القلق حول المصالح القومية، أو الإقليمية الخاصة. وأحياناً يكون الوضع شائكاً عندما يشتكي قُطرٌ ما من أنه منبوذ، أو يعامل بطريقة سيئة غير محايدة. وقد كان السودان، وما يزال، يشكو دائماً من أنه يعامل بطريقة سيئة، وأن صورته قد تم تشويهها بطريقة متعمدة، وتلحق به في هذه “الخصوصية” دولٌ أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية؛ مثل، إيران وكوريا الشمالية وإريتريا وفنزويلا، وبالقطع كوبا. وترتفع أصوات وأسئلة عديدة حول الصورة، التي يجب أن تكون عليها التغطية العالمية، وكيف يكون للتحقيق الصحفي العالمي العام صلة، أو تميّزاً ما عن السياسة الخارجية. أسئلة أخرى تتعلق بالكيفية، التي يمكن أن يؤثر بها الإعلام في السياسة الخارجية والدبلوماسية؛ وأي أجزاء العالم ينال الحيّز الأكبر في التغطية؛ وعمّا إذا كان ذلك سيتغير في فترة العولمة وما بعد الحرب الباردة، التي ما تزال بعض تمثلاتها تطل برأسها كلما حزب أمر بين موسكو الروسية وواشنطن الأمريكية. إن أي بحث للدور النامي لتحرير الأخبار العالمية في العالم يبدأ من الطبيعي من الخط القاعدي للحاضر والممارسة السابقة. بمعنى آخر: ماذا، أو من يجب تغطيته إعلامياً الآن، وكيف يمكن لذلك أن يتغير، أو بعبارة أقوى، كيف يجب عليه أن يتغير في المستقبل؟ إذ لن يكون مستغرباً أن تقوم وسائل الإعلام بتغطية تلك الموضوعات، التي لها رغبة خاصة، أو قوية لدى جمهورها في متابعتها، بسبب:
- المشاركة القومية، أو المصلحة الذاتية القومية على خطوط الأمن الاقتصادي، أو بعض مناحي الإهتمام الإنساني، مثل الرياضة والترفيه.
- الحالات والنزاعات الدولية، التي يمكن أن تؤثر على المجتمع الدولي، أو الإقليم، الذي تكون الدولة جزءً منه؛ هنا تكون الحروب، وبعض المؤثرات، التي تثير عدم الاستقرار ملحوظة.
- 3- الوقائع المفاجئة والمثيرة والغريبة، التي يمكن أن تشمل الكوارث الطبيعية.[18]
أما بالنسبة لما تمت تغطيته بالفعل، وإلى أي مدى يمكن أن تصل الأخبار، فهنالك جملة دراسات مهمة، في خمسينات وستينات القرن العشرين، أوضحت عدم التوازن في إنسياب الأخبار من الدول الصناعية الكبرى نحو العالم النامي؛ وهي فكرة تم جذب الإنتباه إليها في النقاش المستمر حول نظام معلومات العالم الجديد، ونظام ثورة الاتصالات. وهي كانت سياسة رسمية لليونسكو لعدة سنوات حيث أنقسمت الدول لفترة طويلة على خطوط الحرب الباردة بين الديقراطيات الغربية، التي تعارض السياسة بصورة عامة، والكتلة الشرقية، التي تشجع احتجاجات العالم الثالث ضد عدم التوازن في التدفق المعلوماتي.[19] واليوم، يبدو ذلك النقاش في طور الإحتضار عدا في بعض المناطق، التي لم تؤثر فيها نهاية الحرب الباردة وإنهيار المؤسسات والحكومات الماركسية – الللينينة في الكتلة الشرقية. وإضافة للنقاش حول إنسياب الأخبار العالمية بطريقة موضوعية، هنالك دراسات “ريكس مالك” المنشورة في “إنترميديا” في العام 1992، التي تدعم الفكرة القائلة بأن الأخبار لا تسافر بعيداً بالمرة، وأن معظم الدول مهتمة بنفسها في المقام الأول، وفي العلاقات البارزة، والتي تربطها مع الدول الأخرى.[20] فمعظم الأخبار من مناطق بعينها في العالم، خاصة آسيا وإفريقيا، قليلاً ما تجد من يأخذها خارج تلك الأقاليم، وبالمثل، فإن تلك الأقاليم ليست لديها رغبة شديدة في بقية العالم؛ ذلك إذا أخذنا تغطيتها التلفزيونية والصحفية الرئيسة كمؤشر.
لقد اهتم “هيس” و”روتبيرغ” و”ويز” بتفصيل الطريقة، التي تشكّل بها التغطية الإعلامية السياسة الخارجية. حيث قام “هيس” في كتابه بالتوثيق للتغطية الهابطة والاصطناعية المتزائدة للأحداث الخارجية وإنحيازها المتواصل نحو أوربا، والشرق الأوسط، والعنف السياسي.[21] في الجانب الآخر، يقدم كتاب “روتبرغ-ويز” أمثلة عديدة للطريقة، التي أدت بها المعالجة الإعلامية للأزمات الإنسانية إلى تشويه صورة العالم الثالث. ولفصل في الكتاب “ستيفن لفنغستون” أهمية خاصة إذ أنه يشرح السبب، الذي جعل الكارثة الإنسانية في الصومال تقود إلى تدخل الولايات المتحدة، في الوقت، الذي تم فيه تجاهل الحرب المأساوية المماثلة والمجاعة في جنوب السودان.[22] فقد كانت أهم العوامل سهولة الحصول، والسلامة، وموقف حكومة الخرطوم وقتها. وبينما فشل هيس في التحرك خلف الإعلام المذاع التقليدي، قام روتبرغ وويز بتعريف مفصل عن أهمية تقنيات المعلومات الجديدة للنشاطات الإنسانية للمنظمات غير الحكومية. ويقدم الكتابان نقداً حاداً للإعلام، الذي توفرت لديه المعلومات بصورة غير مسبوقة، إلا أنه فشل في إطلاع الجمهور بصورة دقيقة عن الشؤون الخارجية. كما أنه، وفي عصر حيث يجهل الكثير من الأمريكيين أسماء ممثليهم في الكونغرس، فإن مشكلة المعرفة غير الدقيقة قد تبدأ قريباً من الدار.[23]
تعدد الأقطاب:
لكل ذلك، فلكنحن هنا نقدم تقييماً نقدياً لتصور “تعدد الأقطاب” والذي يكتسب أرضية في علم العلاقات الدولية منذ عقود. ونرفض في هذا التقييم تصور استمرار الدبلوماسية التقليدية باعتباره تصوراً غير متماسك وغير مؤسس موضوعياً في نفس الوقت، كما نقترح تصوراً بديلاً، هو تنوع مسارات العمل الدبلوماسي وتداخل تخصصاته وتعدد رسائله ووسائله، والذي نعتقد أنه بهذا الفهم سيكون قادراً بشكل أفضل على أن يعالج الاهتمامات الملموسة الخاصة بالتصور الأول، ولكن في نفس الوقت يسمح لنا بالحديث عن الدبلوماسية بصيغة الفعل القادر على تحقيق الإنجاز. ومصدر الإلهام الأساسي لمثل هذا التصور البديل هو نموذج تنوعات السياسة الدولية، التي تقود أدبيات الاقتصاد السياسي الجديد وعمليات العولمة، والتي تأخذ دول العالم طوعاً واختياراً وقسراً واجباراً للأنخراط في تعظيم إيديولوجيتها، وواحد من مميزاته عن نموذج تعدد الأقطاب هو تركيزه على المؤسسات، بدلاً من الاعتماد على أفكار غامضة بالكاد يمكن شرحها عن العلاقات الدولية واختلاف السياسات. ويجب على مدخل تنوعات الرسائل والوسائل والممارسة، الذي يتبع هذا التصور على أية حال أن يكون أكثر اتساقاً واتساعاً وعمقاً، وعليه سوف يكون أكثر صعوبة في التكوين والتطبيق، من نموذج تنوعات الدبلوماسية التقليدية. ولكن حتى ولو ثبت في النهاية أنه غير منتج، فإن ذات الاعتبارات المتعلقة بمتطلباته المنهجية سوف تكون، مع ذلك، واعدة للتوصل إلى تبصرات قيمة بالنسبة لدارسي الدبلوماسية الحديثة، والسياسة الخارجية، والعلاقات الدولية في عصر العولمة.
فلربما يكون التعدد هو الصفة الأكثر أساسية في مجتمعاتنا الحالية، رغم التشبث بمزاعم الآحادية، الذي تصر عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وتعتمد في منطق الإقناع به على قوتها العسكرية والاقتصادية. ومع االسرعة المتزايدة للتقدم التقني والاقتصادي، تصبح لوسائل النقل والاتصالات أكبر فعالية، وهذا يؤدي إلى أن تتفاعل الدول أكثر مما سبق بكثير مع الناس والمؤسسات والأنظمة والأشياء. وكلما كبرت وأنتشرت هذه الشبكة من التفاعلات حول العالم، تصبح الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والبيئية، والتي نحن جزء منها، أكثر اعتماداً على بعضها البعض. والنتيجة هي منظومة معقدة من الأنظمة والعلاقات بشكل غير مسبوق، حيث يمكن أن يؤثر التغير في أي جزء منها افتراضياً في أي جزء آخر منها، وبشكل لا يقبل التنبؤ به في أغلب الأحوال، ولا يمكن ضبطه، أو السيطرة على متغيراته آحادياً.
ولا يستطيع المنهج الدبلوماسي التقليدي، القائم على التمثيل الرسمي، ورصد وتجميع المعلومات عن البلد محل العمل، التعامل مع مثل هذه الاعتمادية المتبادلة المعقدة. ولكن فهم طبيعة التعدد والتعقد الصاعد في العلاقات الدولية يقدم الوعد بدبلوماسية جديدة، التي تتطلب التعاطي معها بمنهجية بديلة، والتي يمكنها أن تتعامل مع مثل هذه العلاقات المعقدة، وما يطرأ عنها من مشكلات، وما ينشأ حولها من تطورات. ولكن، وعلى أية حال، فإن هذه المقاربة بين الدبلوماسية، تقليدييها وحديثها، تحتاج إلى أسس متينة، بمعنى، فهم وتحديد واضحين للمبادئ والمفاهيم القائمة خلف طبائع العلاقات الدولية في عصر العولمة.
وهذا الإطار التصوري للدبلوماسية الحديثة لا يزال على وجه التأكيد مفتقد في السودان. وفي الواقع، فإن تطبيقات السياسة الخارجية تستخدم إما وسائل تقليدية شديدة التخلف، مثل تقارير الحقيبة الدبلوماسية، دون تفعيل حقيقي لتقنيات التمثيل على الحاسوب، أو الربط الإلكتروني، الذي كل ما كثر الحديث عنه في وزارة الخارجية تراجعت فعاليته. لهذا، تبدو الدبلوماسية الحديثة أكثر قليلاً من سبيكة من الوسائل، بل هي نماذج وتجارب من مناهج متعددة، تستحث التغيير وتستجيب بشروطه لدواعيه، بدلاً من أن تكون راكدة في بقعة تقاليد لا تغادرها. ومع ذلك، وفي حدود إمكانية البلاد للتغيير، فإن المنطق يطالب ببؤرة موحدة لقيادة هذا التغيير، ويمكن أن يوجد هذا الإطار التصوري، على وجه الدقة، في طريقة وزارة الخارجية في التفكير، والتي يجب أن تكون مختلفة جوهرياً عن تلك الخاصة بممارسة الدبلوماسية التقليدية.
أحد وظائف هذه الدراسة الأساسية هي أن تحلل وتنقد الإفتراضات المتضمنة خلف طريقتنا في التفكير السياسي، سواء كانت في مؤسسة الدولة، الإعلام، أو السياسة الخارجية. وبذلك، يمكن للدبلوماسية أن تساعد في إيضاح مبادئ السياسات، التي يتسم بها العمل الكلي للدولة والمجتمع، والتي تميزه عن غيره من الدول والمجتمعات. والدبلوماسية يمكنها أن تساعد وزارة الخارجية على حل بعض مشكلاتها الدائمة، مثل مصدر التمويل للعمل الخارجي، التنظيم، أو الإدارة. وتقسم الدبلوماسية تقليدياً، إلى رسمية وشعبية، التي تختبر الفئات الأساسية للحقيقة في المجتمع، الذي يبحث كيف يمكنه أن يعرف ويعقل الواقع العالمي، ويدرأ المخاطر ويحقق المصالح في إطار من العلاقات الدولية. فقد تعثرت قواعد القانون الدولي كثيراً في تحقيق العدالة المنشودة من خلال منظمات المجتمع الدولي، فكانت الدبلوماسية تحاكي رد فعل لطيف ضد تجربة الهيمنة في الواقع العالمي، إنها أيضاً دعوة لنظام سياسي واجتماعي جديد من شأنه أن يوظف حلولاً ذات أغلبية، وذات سيادة، ومتجانسة ثقافياً، ومحافظة اجتماعياً، ليست مبنية دائماً على سياقات أيديولوجية. بدلاً من ذلك، فإنها تحاول أن تنبثق من قيود الإطار السيادي، الذي هو نتاج تطور الدولة/الأمة، وتدعو إلى تبادل يقوم على نظام سياسي واجتماعي جديد. وغالباً ما تستكشف أدبيات مؤسسات الفكر والرأي حول الدبلوماسية ذلك باعتباره نشاطاً خارجياً فقط، صادراً من رأس الدولة إلى رأس دولة أخرى؛ في المستوى الثنائي، أو من رأس الدول إلى رأس منظمة؛ في مستواها التعددي. وبهذا، يتم تقديم “الدبلوماسية” هنا بشكل خاطئ، على أنها مرادف طبيعي لوظيفة الخدمة المدنية العادية، وهو أمر خاطئ من الناحية التحليلية والمنهجية. إذ إنه ينظر فقط إلى الجغرافيا السياسية، إلى فكرة المنافسة في المعايير على الساحة الدولية، وليس إلى شيء متشابك بشكل وثيق مع االسياسات الداخلية، وينشأ من داخلها.
حلم العولمي:
يستخدم مصطلح “النظام العالمي الجديد” بواسطة المؤسسات الإعلامية القيادية، والورش الفكرية، والتصريحات الرسمية، في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من غيرها من دول العالم. وهذه المجموعات تناصر في العالب مبدأ الحكومة العالمية، وإنصهار الكيانات القومية في منظمة عالمية تقوم بمركزة المدارات الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، في شبكة عالمية واحدة. ويمثل أولئك الذين يدعون لهذه الفكرة، أي لنظام عالمي جديد، مجموعة متنوعة، غير متجانسة في معظم الأحيان. فهم يشتملون على مجموعات سياسية متنوعة، مثل: نادي روما، ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، والمفوضية الثلاثية الأوربية، كما تمت ترقية المصطلح بواسطة مجموعات السياسة الخارجية، والجمعيات السرية، ورجال المصارف العالميين، لأنه يصادف هواً في نفوسهم، ويتفق مع غايات تطلعاتهم. إذ إنه تاريخياً، استخدم “العالميون” المصطلح لوصف رغباتهم لتوحيد العالم سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً، وهى بهذا تُعَدُّ ظاهرة ليست حديثة العهد. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى قام الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بالحث على إنشاء أول وكالة حكومية عالمية: “عصبة الأمم”. ولكن بالرغم من محاولاته المضنية للحصول على موافقة التشريعيين في بلاده، فقد فشل في جر الولايات المتحدة لعصبة الأمم. إلا أنه بنهاية الحرب الثانية، بدأ العالم أكثر رغبة في التجربة؛ على الأقل بشكل محدود، للحكومة العالمية من خلال الأمم المتحدة. فقام الرئيس هارى ترومان بالتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة في 1945، وبعد عام قام جون روكفلر الإبن بمنح الأمم المتحدة المال لشراء الثمانية عشر فدأناً على نهر “إيست” في مدينة نيويورك حيث يقبع مبنى الأمم المتحدة اليوم.
وفي السبعين عاماً الماضية، حاول العولميون استخدام الأمم المتحدة، والمنظمات العالمية الأخرى، لإنجاب هذا النظام العالمي الجديد. بالرغم من ذلك، فإن جهودهم كانت بلا جدوى، ففيما عدا عملياتها لحفظ السلام في الحرب الكورية، ومناطق تأزم أخرى، بما فيها السودان وجنوب السودان، لم تكن الأمم المتحدة في معظم الأوقات أكثر من جمعية نقاش عالمية.[24] وبعض علامات التغيير في التفكير جاءت عندما ألقى الرئيس السابق جورج بوش الأب خطابه أمام جلسة مشتركة للكونغرس حيث أشار أربعة مرات “لنظام عالمي جديد”. السبب وراء كل هذا الحديث عن نظام عالمي جديد هو استجابة باكرة لتغير حدث في الوضع العالمي؛ فإنخفاض التوتر في أوربا الشرقية، وازدياد التوتر في الشرق الأوسط، هما السبب المفترض لحديث الرئيس بوش عن نظام عالمي جديد. ولكن، وكما لاحظنا سابقاً، فإن هذا المصطلح قد سبق كل الأحداث العالمية المعاصرة. وقد وصفت الـ”نيوزويك” تكوين رؤية الرئيس بوش حول النظام العالمي الجديد بقولها: “بينما كان جورج بوش يمارس صيد السمك ولعب الغولف متأملاً عالم ما بعد الحرب الباردة في ولاية “مين” الشهر الماضي، قال مساعدوه بأنه بدأ في تخيل نظام عالمي جديد”[25] ومضت إلى القول: ” إنها رؤية كانت ستجعل جون فوستر دالاس يرتعد حتى النخاع: أن تتحد الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى لإدارة الأزمة حول العالم.”[26] ربما كانت ستدهش زعماء سياسيين سابقين، إلا أنه مما يستحق الذكر أن كل الإعلام الليبرالي، ومعظم السياسيين، كان يبدو أنهم مستعدون لاحتضان مفهوم نظام عالمي جديد.
ويتذكر العالم جيداً أنه عندما خاطب الرئيس بوش جلسة مجلسى الكونغرس، كانت هذه هى الطريقة، التي عبر بها عن رؤيته: “الأزمة في الخليج الفارسي برغم قبحها قد منحت أيضاً فرصة نادرة للتحرك نحو فترة تاريخية من التعاون. ومن هذه الأوقات المضطربة يمكن أن يخرج هدفنا الخامس؛ نظام عالمي جديد؛ عهد جديد خال من تهديد الإرهاب، وأكثر قوة في السعي نحو العدل، وأكثر أمناً في البحث عن السلام. عهد يمكن للعالم شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً أن يزدهر فيه وأن يعيش في انسجام.” بعد ذلك قام الرئيس وليام جيفرسون كلنتون باقتراح تنويع لهذه الفكرة، إذ وصفها بمتعددة الأطراف العالمية. وعندما استلم فريق السياسة الخارجية للرئيس كلنتون مواقعه، كانوا يرغبون في مد مثال الرئيس بوش لنظام عالمي جديد، إلتزاماً منهم تجاه التمدد السريع لعمليات حفظ السلام، التي ترعاها الأمم المتحدة.[27] فقد بدأ فريق الرئيس كلنتون في تطوير معاهدات لنشر قوات أمريكية في النقاط الساخنة حول العالم. كان الهدف ترقية الحرفية لدى قوات الأمم المتحدة، ووضع القوات الأمريكية تحت قادة من الأمم المتحدة مستخدمين قواعد الأمم المتحدة في القتال.[28]وقد بدأ وكأن الأمر يسير بصورة حسنة في صالح سياسة الرئيس كلنتون، حتى تمزقت القوات الأمريكية في كمين بالصومال، واكتشف الأمريكيون أن العملية كانت تحت قيادة جنرال باكستانى. وفجأة أخذت الأنباء والأمهات الأمريكيون يودون معرفة السبب في وضع حياة أبنائهم في خطر بتعريض القوات الأمريكية لطريق الأذي تحت قيادة الأمم المتحدة. وكانت سياسة الرئيس كلنتون، حول متعددة الأطراف العالمية، تحاول أن تستجيب لطلب الأمم المتحدة لقوات سريعة الإنتشار؛ متأهبة تحت إدارة الأمين العالم. إلا أن ما قامت به في النهاية هو دعوة القوات الأمريكية للمخاطرة بأجسادهم وأرواحهم من أجل أسباب غير واضحة، في أماكن بعيدة، تحت قيادة أجنبية، وبقواعد التحام كابحة. إن فقدان السيادة الأمريكية، وتهديد المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة، ينظر إليها كأمور في غاية الأهمية بالنسبة للمحافظين القدامى والجدد وأقصى اليمين.
بالرغم من أن فكرة نظام عالمي جديد لم يكتب لها النجاح، وأن المنظمة المعادية للعولمة لم توضع بعد، فإن حمى العولمية تزداد بسرعة، فكثير من المنظمات المكونة قد قامت بالفعل، أو هى في طور التشكل. وهنالك مجموعة من “الأشخاص والمنظمات العولميين” الذين يمثلون القوة الدافعة لـ”حكومة عالمية واحدة” تمثل قوتهم الدافعة هذه إيديولوجية عالمية. هدفهم السيطرة على السياسة الدولية. وهم يعلمون بأنه لا يمكنهم الزحف داخل بلد ما ومطالبة الناس بالتخلى عن سيادتهم الوطنية فيه. وبدلاً عن ذلك، فإنهم يأملون ويعملون على أن الأمم المتحدة ستقوم بطريقة لطيفة باجتزاء الدول من خلال ترتيبات معاهدات تفقد فيها سيأدتها رويداً رويدا، وقاموا أيضاً بإنشاء منظمات غير حكومية، وهى جمعيات مجموعات مواطنين في كل أنحاء العالم تم تصميمها للترويج لبرامج وأهداف الأمم المتحدة لجمهور العالم. وهكذا، فإن استراتيجيتهم هى تقدم تدريجي نحو العولمية بحيث لا يتم إيقاظ عدد كبير من الناس لما يدور من حولهم.
خاتمة:
لقد ثبت أن هنالك موضوعات واهتمامات عديدة مشتركة لكثير من الدول حول العالم تتعلق بنظريات العلاقات الدولية، بمثلما تتعلق بتطور تقنيات الاتصال والمعلومات. وكثير من العوامل؛ مثل القوى الاقتصادية، والقوى السياسية، والمنظمات المدنية وغير الحكومية، والمجموعات ذات المصالح الخاصة، والثقافة، تؤثر في الكيفية، التي تم بها خلق وتشكيل السياسات الداخلية والخارجية خلال الرسائل الإعلامية. وهذه الإهتمامات المشتركة تضم تنظيم المحتوى، أو “السيطرة الرقابية”، ودرجة الإتاحة، ونوع الخدمة، وحقوق النشر، و”العلامة التجارية”، والتجارة الإلكترونية والضرائب، والتزييف والجريمة، وغسل الأومال، والحرب على الإرهاب، والأمن الإلكتروني، والسرية، وغيرها. وهنالك أيضاً اهتمامات تتعلق بصناعة السياسة الخارجية وأداء الدبلوماسية، تخص دولاً بعينها، وفي ما بينها. وقد سعى هذا المبحث لمحاولة تجميع بعض ما يُعين “فهمنا غير المكتمل” لكل من هذه الموضوعات، حتى نصبح مواطنيين عالميين مستنيرين قادرين على المشاركة الجماعية في التأثير على تشكيل السياسات العولمية. فإلى أي مدى تقوم البشرية باستخدام هذه السياسات في تحسين أحوالها؟ إن هذا بلا شك يعتمد على معتقدات، وقيَم، وتوجهات، وسلوكيات، أولئك الذين يسيطرون على شبكات الإعلام، وأولئك الذين يدفعون عمليات العولمة عبر أيديولوجيات سياسية ومقدرات اقتصادية. إن السجل الإنسانى في هذا المجال حتى الآن ذو نتائج متباينة،[29] إذ يتمثل محتوى الاتصال في أفكار المتصل، التي تؤثر على الجوانب المعرفية “المفهومى/الإستقبالي”، التأثيرية “التوجهية” والسلوكية في حياة الجمهور “الإنسانية”. وهكذا، فإنه من الضروري تكوين نظريات ومناهج وآليات للنظر في الاستخدامات المختلفة، ولأثر اتصالات الإعلام الجماهيري والاجتماعي على المجتمع، والقضايا الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسة، والدبلوماسية، والسياسة الخارجية، والعلاقات الدولية، وكل عمليات العولمة، وظاهرة العولمية.
وإذا كانت الأيدولوجية العولمية هي ما نحاول تبيان مهدداته النَزَّاعَة للهيمنة هنا، فهناك ثمة آفاق عديدة تطلقها العولمة، وثمة تحديات متزايدة تفرضها مسيرة التحولات والتطورات المرافقة لها، التي تجري في العالم اليوم، وعلى مختلف المستويات. إذ يبدو الأمر، أنه لا يمكننا اغتنام الفرص والإمساك بهذه الآفاق ومواجهة التحديات مواجهة حضارية وإيجابية، إلا بتطوير أوضاعنا الخاصة، وإصلاح مكامن الخلل في مسيرتنا العامة، وتجاوز كل ما يحول دون الانخراط الفعال في مسيرة هذه التحولات والتطورات العالمية. لذلك، فإننا مطالبون، ليس فقط بتطوير ذواتنا ومؤسساتنا وإمكاناتنا، وإصلاح أوضاعنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؛ عبر الدخول في مسار رشد الحكم، وإنما الالتزام بكل مقتضيات العدل والمساواة؛ على المستوى المحلي، والمناداة بها على مستوى العالم. وأن نوقن أن هذا الخيار، إن أفلحنا السير فيه برأي ورؤية، هو الذي يؤهلنا للإمساك بما يلينا من آفاق هذه التحولات والتطورات، وهو الذي يوفر لنا أسباب المواجهة الإيجابية للتحديات والمهددات، واغتنام ما تمنحه العولمة من فرص.
_____________
[1] Gen. John M. Shalikashvili, Chairman of the Joint Chiefs of Staff, USA, “Force & Diplomacy in the 21st Century”, On the occasion of the 15th Oscar Iden Lecture and the 75th anniversary of the School of Foreign Service. Georgetown University. Institute for the Study of Diplomacy, REPORTS, December 1994, p. 1.
[2] Armand Mattelart, Mapping World Communication: War, Progress, Culture, University of Minnesota Press, Minneapolis, London, 1994, pp. 134-211.
[3] Kathryn Sikkink, Ideas and Institutions: Developmentalism in Brazil and Argentina, Cornell University Press, Ithaca, 1991, p. 1.
[4] Ibid., p. 123.
[5] A Report of the Center for Strategic and International Studies(CSIS) Advisory Panel on Diplomacy in the Information Age, ” Reinventing Diplomacy in the Information Age”, Washington, DC, USA, 9 October 1998.
[6] Nkosinathi Sotshangane, What Impact Globalization has on Cultural Diversity? Alternatives: Turkish Journal of International Relations, Vol.1, No.4, Winter 2002.
[7] Ibn Khaldun, The Mugaddimah: An Introduction to History, Translated from Arabic by Franz Rosenthal, Routledge and Kegan Paul, London, 1967, pp. X, 97.
[8] Ayşe Zarakol. Before the West: the Rise and Fall of Eastern World Orders, Cambridge University Press, 2022.
[9] Ibid., p. 23.
[10] Hamid Mowlana, Global Information and World Communication: New Frontiers in International Relations, Longman, New York and London, 1986, p. 176.
[11] Briefing Paper, The Media and Foreign Policy in the Post -Cold War World, The Freedom Forum, Media Studies Center, Columbia University, New York, 1993, p. 6.
[12] William C. Adams, ed., Television Coverage of International Affairs, Ablex Publishing Co., Norwood, N. J., 1982.
[13] Simon Serfaty, ed. The Media and Foreign Policy, St. Martin’s Press, New York, 1990, pp. 19-56.
[14] American Diplomacy in the Information Age. Proceedings from the Herbert Wilson Griffin Seminar in International Affairs. University Press of America, New York, 1991.
[15] Bernard Cohen. The Press and Foreign Policy. Princeton University Press, Princeton, N. J., 1963, pp. 45-66.
[16] Lucenta Broadbent, et al. War and Peace News. Milton Keynes, Open University, Press, UK, 1985, pp. 22-34.
[17] Yoel Cohen, Media Diplomacy: The Foreign Office in the Mass Communications Age, Frank Cass, London, 1986, 18-35.
[18] Briefing Paper, The Media and Foreign Policy in the Post -Cold War World, The Freedom Forum, Media Studies Center, Columbia University, New York, 1993, p. 5.
[19] Sean MacBride, Many Voices, One World, Unipub, Unesco, Paris, New York, 1980, 21-78.
[20] Rex Malik, “Informatics and Development”, Intermedia, 7: 1, January 1979, p. 11.
[21] Stephen Hess. INTERNATIONAL NEWSAND FOREIGN CORRESPONDENTS, Brookings, Washington, 1996, p. 194.
[22] Rotberg and Thomas G. Weiss, ed., FROM MASSACRES TO GENOCIDE: THE MEDIA, PUBLIC POLICY AND HUMANITARIAN CRISES. Robert I., Brookings, Washington, 1996, p. 196.
[23] Reviewed by Francis Fukuyama, “Foreign Affairs“, May/June 1996, p. 147.
[24] Kerby Anderson, ibid, p. 3.
[25] Newsweek, in his September 21, 1992 speech to the United Nations, President George Bush announced that foreign troops, would occupy America and train for a New World Order Army. He stated:
— “Nations should develop and train military units for possible U. N. peacekeeping operations. . .. If multinational units are to work together, they must train together. . .. Effective multinational action will also require coordinated command & control and inter-operability of both equipment and communications. “
— “.. . We must change our national institutions if we are to change our international relations. . .. the United States is preparing to make available our bases and facilities for multi-nations training and field exercises.
[26] Newsweek, Noam Chomsky on the “New World Order” and the Origins of His Scepticism,interviewed by David Barsamian. October 6,1990, p. 57.
[27] On May 3, 1994, President Clinton signed an Executive Order Presidential Decision Directive (originally numbered PPD-13, later changed to PPD-25) that places U. S. troops under U. N. command and abolished the law limiting the number of U. S. troops that can be committed to the U. N. without approval of Congress.
— PPD-25 also created special funding for U. N. peacekeeping and occupation forces, that permits an UNLIMITED drain upon the U. S. Treasury. American Tax payers will be forced to pay any amount demanded by the U. N. occupation forces.
— President Clinton, in his acceptance speech for the Democratic Party’s nomination for president, 16 July 1992. [Clinton is also a Rhodes Schollar.
[28] حديث الرئيس بوش الكبير في الأمم المتحدة في 21 سبتمبر 1992 الذي نقلته النيوزويك: “.. . على الدول تنمية وتدريب وحدات عسكرية لعمليات حفظ سلام محتملة من قبل الأمم المتحدة.. إذا كانت الوحدات العالمية ستعمل مع بعض فيجب عليها أن تتدرب مع بعض.. . الفعل متعدد الجنسيات الفعال سيحتاج أيضاً إلى تنسيق في القيادة والسيطرة والعملياتية المشتركة للمعدات والاتصالات.. . يجب علينا أن نغير مؤسساتنا القومية إذا كان عليتا أن نغير علاقاتنا الدولية.. . تستعد الولايات المتحدة لتجعل قواعدها ووسائلها متاحة للتدريب والتمارين الحقلية للقوات متعددة الجنسيات.”
[29] Dilnawaz A. Siddiqui, “Mass Media Analysis: Formulating An Islamic Perspective“, The American Journal of Islamic Social Sciences,Vol. 8, No. 3, 1991, p. 473.
____________________________
*الدكتور الصادق الفقيه/أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية
الثلاثاء 14 يونيو 2022/صقاريا، تركيا.
*المصدر: التنويري.