من الإمكانيَّة إلى الإمكانيَّات الحضاريَّة؛ الغرب في مواجهة العالم
أزمة الغرب تكمن في تصوره المركزي عن نفسه eurocentrisme، وهذه نزعة موروثة عن المرحلة الاستعماريَّة حينما صاغ الغرب متخيّله Imaginaire الخاص عن باقي العالم، وسمح لنفسه بالتعامل مع العالم غير الغربي كمتخيّل وليس كواقع.
اليوم، يجد الغرب نفسه في مواجهة قيميَّة مفتوحة مع باقي العالم الذي يتشكَّل من حضارات متجذِّرة في التاريخ، إسلاميَّة وكونفشيوسيَّة وسلاڤيَّة.
ورغم الإيهام الذي مارسه الغرب لعقود، عبر الخلط بين منظومته القيميَّة الخاصَّة وبين منظومة حقوق الإنسان، التي يجب أن تتَّخذ طابعًا كونيًّا عامًّا، فإنَّه فشل في التسويق لمنظومته القيميَّة، ليجد نفسه في مواجهة مفتوحة تبدأ من روسيا السلاڤيَّة مرورًا بالعالم الإسلامي وصولا إلى العالم الكونفشيوسي.
الغرب يدرك الاختلاف الحضاري الذي يحكم العالم، لكنَّه لا يؤمن بهذا الاختلاف ولا يقرُّ به كأمرٍ واقع، بل يتصوّره صراعًا/صدامًا حضاريًّا يجب أن يخوضه الغرب من أجل الانتصار والقضاء على أوجه الاختلاف. فكل مختلف، سواء أخضر كان أم أحمر أم كونفسيوسيا غير ملون هو خصم يجب تحييده عبر القضاء عليه بالضربة القاضية، وهذه أطروحة هتنجتون حول صراع/صدام الحضارات باختصار.
وفي أوج نزعته العدوانيَّة، التي تزامنت مع الخروج من زمن الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي، لم يتردَّد الغرب في حسم الصراع مع العالم غير الغربي، بالضربة القاضية، وإعلان نفسه منتصرًا من طرف واحد! هكذا أنهى (فوكوياما)، الكونفشيوسي المؤمرك حديثًا! الصراع بجرّة قلم عابرة وأعلن، على الملأ، نبوءته عن نهاية التاريخ !
الحقيقة، المفارقة للمتخيّل، التي يجب أن يدركها الغرب، هي أنَّ العالم متعدِّد والغرب ليس سوى إمكانيَّة حضاريَّة واحدة من بين إمكانيَّات متعدِّدة ومختلفة، وما يروّجه الغرب عن نفسه، من منظور مركزي، ليس سوى متخيَّل زائف يجب مواجهته من طرف شعوب العالم عبر النقد والتعرية أو لا، وعبر استعادة الخصوصيَّات الحضاريَّة للشعوب ثانيًا.
في علاقة بالخصوصيَّة الحضاريَّة العربيَّة الإسلاميَّة، يجب توظيف أطروحة إدوارد سعيد عن الاستشراق التي تعتبر صدمة نظريَّة للسرديَّة الاستشراقيَّة، فقد تمكَّن إدوارد سعيد من فضح كمّ التزييف/التزوير الممارس على الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، لدرجة تجريدها من واقعيّتها ومسخها على شكل متخيّل مجرّد يفتقد التجسيد الواقعي.
الغرب لا يعترف إلا بالقوَّة! يعترف بك فقط حينما تفرض نفسك! وقد أدينا ثمنًا حضاريَّا باهظًا بتواضعنا أمام الغرب وتمثيل دور الضحيَّة، باعتماد تأويل منحط Nieztsh/la décadence للقيم العربيَّة الإسلاميَّة من منظور عرفاني أقرب إلى الرهبنة المسيحيَّة، وهذا لا يتلاءم، قطعا، مع قيمنا الجمعيَّة التي توَّجت الفروسيَّة رمزا حضاريًّا كصياغة لإرادة القوَّة la volonté de puissance بلغة نيتشه.
أي حوار حضاري محتمل مع الغرب يجب أن يتجرَّد من التبعيَّة العمياء، ويجب أن يستند إلى النديَّة الحضاريَّة، مثلما تفعل الصين وروسيا، وهذا يتطلَّب منا معالجة عقدة المغلوب التي أصابتنا مع الصدمة الاستعماريَّة، وأفقدتنا الثقة في الذات التي ميَّزت أجدادنا، لقرون، وصنعت منجزاتهم الحضاريَّة في الشرق العربي-الإسلامي وغربه.
________
*د. إدريس جنداري- باحث في سوسيولوجيا الثقافة.
*المصدر: التنويري.