مكامن الإبداع والمنطق في الدماغ البشري
هل هناك أي حقيقة للفكرة الشائعة بأن لدى الإنسان نصف كرة دماغي مهيمن، وأن الأشخاص الذين لديهم نصف كرة دماغي مهيمن في الجهة اليسرى من الدماغ أقل إبداعاً في المواضيع الفنية، وأكثر منطقية، من أولئك الذين لديهم نصف الكرة المهيمن دماغياً في الجهة اليمنى؟
اليمين مقابل اليسار في الدماغ البشري
الفكرة التي تم الإفراط في استخدامها وسوء تفسيرها من قبل العديد من المهتمين هي الفكرة القائلة بأن الجانب الأيسر من دماغك منطقي وتحليلي بينما الجانب الأيمن إبداعي فني، وبدلاً من العمل معاً، يتنافس هذان النصفان مع بعضهما البعض. وإذا تمكنت من الوصول إلى عقلك الأيمن، وحررته من هيمنة الأيسر، فيمكنك أن تكون أكثر إبداعاً، أو أنك بحاجة إلى إغلاق نصف دماغك الأيسر للقيام بعمل إبداعي فني.
هناك دليل على أن المرضى الذين يعانون من آفات معينة في أحد جانبي الدماغ قد يظهرون أعراضاً مختلفة عن المرضى الذين يعانون من آفات مماثلة في الجانب الآخر، حيث يتم تعيين أدوار وظيفية مختلفة لمناطق الدماغ التشريحية المختلفة. لكن الحقيقة العملية والعلمية أكثر تعقيداً من ذلك التبسيط الذي يمكن أن يكون مخلاً.
ساعدت دراسة مجموعات من مرضى الآفات الدماغية علماء الأعصاب على اكتشاف أن بعض الوظائف المعرفية، مثل اللغة، تتمركز بشكل أساسي في جانب واحد من الدماغ. يُعرف هذا التخصيص للوظائف المختلفة لنصفي الكرة الدماغية في جماجم بني البشر بتفارق وظائف الدماغ.
عندما يتعلق الأمر بحواسنا وأفعالنا، على وجه الخصوص، فإن جانبي الدماغ يعالجان مجموعات مختلفة من المعلومات. يتم تمثيل الجانب الأيسر من جسم الإنسان حسياً وحركياً بشكل أساسي في نصف الكرة الدماغي الأيمن، والعكس صحيح.
هذا يعني أن يدك اليمنى يتحكم فيها الجانب الأيسر من دماغك، وما تراه في مجال الرؤية الأيسر بعينك اليسرى يتم عرضه على الجانب الخلفي من الجانب الأيمن من نصف الكرة الدماغية الأيمن من دماغك.
مثلما لديك يد مسيطرة، فعلى الأرجح أن لديك أيضاً نصف كرة دماغي مهيمن. في الواقع، نظراً لأن لديك نصف كرة مهيمن، فلديك أيضاً يد مسيطرة كأن تستخدم يدك اليمنى بكفاءة أكبر من اليسرى وتكتب بها.
بالنسبة للأشخاص الذين يستخدمون اليد اليمنى بكفاءة أكبر من اليسرى ويكتبون بها، فإن النصف الدماغي الأيسر هو النصف المهيمن. ويحتوي الجانب الأيسر من الدماغ في غالب الأحيان على معظم وظائف اللغة. ولكن إذا كنت أعسراً، فهناك احتمال بنسبة 20٪ فقط أن يكون نصف دماغك الأيمن هو نصف دماغك المسيطر. وهناك أيضاً فرصة بنسبة 20٪ أن كلا نصفي الكرة الدماغيين يحتويان على وظيفة لغوية. أما بالنسبة لبقية مستخدمي اليد اليسرى بكفاءة أكبر من اليد اليمنى ويكتبون بها، فلا يزال لديهم فرصة بنسبة 50-60٪ أن تكون معظم وظائفهم اللغوية في الجانب الأيسر كما هو الحال عند مستخدمي اليد اليمنى بكفاءة أكبر من اليسرى ويكتبون بها.
وعلى الرغم من أن العديد من الوظائف اللغوية تعتمد على نصف الدماغ الأيسر السليم، إلا أن نصف الدماغ الأيمن يشارك بالتأكيد في الاتصال اللفظي النطقي. يُعد الجانب الأيمن أفضل بكثير من النصف الأيسر في فك رموز اللحن والنبرة المدمجة في لغة التواصل بين البشر، في حين أن الجانب الأيسر هو موطن القواعد والقاموس اللغوي.
وتشير دراسات التصوير العصبي إلى أن نصفي الكرة الدماغيين قد يلعبان أدواراً مختلفة في معالجة المشاعر، حيث يُظهر النصف الدماغي الأيسر نشاطاً أكبر إلى حد ما مع العواطف الإيجابية ويُظهر النصف الأيمن مزيداً من النشاط أثناء المعالجة العاطفية السلبية.
الرؤية التي قدمها التصوير العصبي هي أن مسارات المادة البيضاء، أو مخطط قنوات النقل العصبي في كل نصف كرة دماغية مختلف بشكل طفيف عن النصف الآخر. ينظر إلى قنوات النقل العصبي في نصف الكرة الأيمن على أنها أكثر كفاءة لأنها تتمتع بقدر أكبر من الاتصال بين المناطق التشريحية في نصف الكرة الأيمن. في المقابل، يبدو أن النصف الدماغي الأيسر أكثر نمطية وأقل في مستوى الاتصالات الداخلية بين مناطقه التشريحية. وقد يفسر هذا الاختلاف في بنى التوصيل العصبي سبب احتواء النصف الدماغي الأيسر على مناطق تعمل بشكل أكثر استقلالية إلى حد ما وأكثر تخصصاً من المناطق الموجودة في نصف الأيمن، والتي تشارك في عمليات أكثر تكاملاً فيما بينها، مثل مهام الرؤية المكانية.
وكما أنه من الأسهل العثور على التخصص التشريحي الوظيفي في النصف الأيسر من الدماغ أكثر من النصف الأيمن، فإن العلماء الذين يبحثون عن أدلة على الارتباط بين الدماغ الأيمن والإبداع، والدماغ الأيسر والمنطق يشيرون إلى هذه الاختلافات في أنماط التوصيل العصبي كسبب لبعض الاختلافات الظاهرية المشاهدة بين البشر في قدراتهم الإبداعية أو المنطقية.
لقد أظهرت أبحاث التصوير العصبي أيضاً حقيقة مهمة تتمثل في دوام تواصل نصفي الدماغ بشكل لا ينقطع ما لم يتم قطع الاتصال بينهما لعلة تشريحية أو سكتة دماغية، حيث تنتقل المعلومات عبر نصفي الدماغ خلال الغالبية العظمى من المهام التي نطلب من أدمغتنا إنجازها.
وفي العديد من المناطق، تنتقل الإشارات من نصف الدماغ إلى النصف الآخر بسرعة أكبر من سرعة الانتقال داخل النصف الواحد؛ أي أن بعض الإشارات من قشرة الفص الجبهي الأيمن والأيسر يمكن تبادلها بشكل أكثر كفاءة من تبادل الإشارات من الجزء الخلفي من الدماغ إلى الجزء الأمامي من الدماغ في نفس النصف الدماغي.
دراسة المرضى الذين يعانون من النوبات الاختلاجية
لفهم ما تستند إليه أسطورة الدماغ الأيمن والأيسر، ولماذا هي خاطئة، وأن الحقيقة أعقد من ذلك التبسيط المخل، نحتاج إلى العودة إلى عصر ما قبل التصوير العصبي، وبالتحديد إلى الأطباء الذين كانوا من بين أول من اقترح أن نصفي الدماغ قد يلعبان أدواراً مختلفة.
في الأربعينيات من القرن الماضي، حاول اثنان من جراحي الأعصاب إجراءً تجريبياً للمساعدة في كبح النوبات الاختلاجية في المرضى الذين يعانون من حالات الصرع الشديدة. تحدث النوبات بسبب انتشار نشاط كهربائي غير طبيعي في الدماغ. عادة، يبدأ هذا النشاط في جزء واحد من الدماغ وينتشر عبر الدماغ، متتبعاً مسار المسارات العصبية القائمة في الدماغ. عندما يكون هذا النشاط الكهربائي شديداً بدرجة كافية ومنتشراً، يعاني الأشخاص المصابون بالصرع من نوبات اختلاجية خطيرة ومنهكة.
في الأربعينيات من القرن الماضي، استنتج جراحو الأعصاب أنه إذا تمكنوا من احتواء الاختلال الكهربائي في جانب واحد فقط من الدماغ، فلن تكون النوبات شديدة. ومن ذلك المنطلق اقترحوا إجراءً جراحياً من شأنه قطع الجسم الثفني، وهو جسر الوصل وطريق المعلومات الفائق السرعة الذي يربط نصفي الدماغ. من خلال قطع هذا الجهاز الليفي، اعتقدوا أن بإمكانهم حبس النشاط الكهربائي غير الطبيعي في نصف واحد من الدماغ.
لسوء الحظ، لم يكن لهذه العمليات الجراحية الأولية أي تأثير إيجابي على مرضاهم، وسرعان ما تم التخلي عن هذه التقنية في أوائل الستينيات من القرن العشرين. وكان ذلك بعدما أدرك جراحو الأعصاب الآخرون الذين يعملون مع مرضى النوبات أن فكرة قطع الروابط بين نصفي الدماغ كانت سليمة في الواقع. ولكن كانت مشكلة التجارب الجراحية الأولى تكمن في أن التقنية الجراحية كانت قاصرة.
في العمليات الجراحية الأولى، تم قطع الجسم الثفني فقط. ولكن هناك في الواقع طريقان آخران يمكن من خلالهما أن ينتقل النشاط العصبي غير الطبيعي من جانب من الدماغ إلى الجانب الآخر. هذان الطريقان هما الحصين والصوار الأمامي.
أجرى جراحو الأعصاب فيما بعد عمليات جراحية جديدة قطعت هذه الطرق الإضافية جنباً إلى جنب مع الجسم الثفني. وأطلق جراحو الأعصاب على هذه العمليات الجديدة اسم بضع الصوار الكلي، ووجدوا أن هذه الإجراءات نجحت في الحد من انتشار النوبات في عدد من مرضى الصرع الشديد. وكان مصدر نجاحهم هو قدرتهم على قطع الاتصال بشكل كامل بين نصفي الدماغ.
لم نعد نجري هذه الجراحة كثيراً بعد الآن، لأن الأدوية المتاحة للحد من الصرع أفضل بكثير مما كانت عليه في الستينيات من القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين تم تطوير إجراءات جراحية أقل رضاً لعلاج مرضى الصرع المعند على العلاجات الدوائية.
عمليات بضع الصوار الكلي في الدماغ
في خمسينيات القرن المنصرم، بدأ عالم النفس العصبي روجر سبيري، مع تلميذه مايكل جازانيجا، باختبار ما يسموا بمرضى الدماغ المنقسم لمعرفة جوانب العقل البشري التي تتم معالجتها في كل نصف من الدماغ. وفي الواقع أسس هذا العمل الرائد لأسطورة الدماغ المزدوج: الأيسر/المنطقي، والأيمن/الإبداعي.
بمجرد أن بدأ جراحو الأعصاب في إجراء عمليات بضع الصوار، بدأوا في تخليق مرضى لديهم نصفا كرة دماغيين أيمن وأيسر لم يعد بإمكانهما تبادل المعلومات. هذا يعني أن ما يعرفه دماغهم الأيسر، قد لا يعرفه دماغهم الأيمن، والعكس صحيح. أدرك سبيري وجازانيجا وباحثون آخرون أن هذا هو الحال، ومن ثم بدأوا في ابتكار طرق جديدة للاستعلام عن قدرات أحد نصفي الدماغ في موقف ما.
على سبيل المثال، باستخدام حقيقة أن ما هو موجود في مجال الرؤية الأيسر لدينا لا يُرى إلا من خلال نصف الكرة الأيمن، فإنهم سيظهرون لنصف الكرة الأيمن سلسلة من الصور لفترة وجيزة جداً. ثم يطلبون من المريض الرد بطريقة ما على مارآه.
الشيء المخادع بالنسبة للمرضى المصابين بانقسام الدماغ هو أنهم يعوضون حقيقة أن نصفي الدماغ يعملان بشكل مستقل عن طريق تحريك رؤوسهم بحيث يدخل أي شيء يرونه أو يسمعونه إلى جانبي الدماغ.
لتكون قادراً على التحدث إلى أحد نصفي الكرة الدماغية دون تدخل الآخر، ابتكر علماء الأعصاب الذين يدرسون المرضى جهازاً ذكياً يحد من المعلومات التي يتلقاها كل نصف كرة دماغي. وعلى سبيل المثال، استنبطوا طريقة لجعل المريض ينظر إلى الأمام مباشرة ثم تومض كلمة إلى اليسار أو اليمين وبالتالي يمكن التحكم في النصف الذي «يرى» الكلمة التي أومضت.
في كل مرة تتحدث فيها مع شخص ما، فإنك تعتمد على النصف الأيسر من دماغك لمواكبة مفردات التبادل اللغوي وفهمها. لذلك، عندما سُئل المرضى المصابون بانقسام الدماغ عما رأوه بنصف الكرة الأيمن، غالباً ما كانوا يقولون ببساطة «لا أعرف» أو «لا شيء»، لأن النصف الدماغي الأيسر المتحدث لم يكن لديه إمكانية الوصول إلى ما رآه النصف الأيمن من الدماغ.
ولكن بعد ذلك، إذا طُلب منهم الاختيار من بين مجموعة من البدائل – على سبيل المثال، من خلال الإشارة إلى صورة لشيء مرتبط بالشيء الذي رآه دماغهم الأيمن – كانوا يتفاجؤون تماماً عندما تمتد يدهم اليسرى بشكل غريزي وتتخذ خياراً أو تستجيب للأمر. في الواقع، غالباً ما شعروا كما لو كانوا يخمنون فقط.
وعندما سُئل المريض عن سبب قيامه بهذا الفعل المحدد، قام الدماغ الأيسر – الذي يهيمن على الكلام – بتكوين قصة مختلقة وغير حقيقية تلقائياً لشرح السلوك.
كان جازانيجا أول من اقترح أنه بين تصرفات هؤلاء المرضى واستجاباتهم، هناك جزء من أدمغتهم يفسر ما يفعلونه. وأطلق على وظيفة اختلاق وسرد القصص في الدماغ مسمى المترجم الفوري في الدماغ، وقام بتوطينها تشريحياً في النصف الدماغي الأيسر، جنباً إلى جنب مع اللغة.
وهناك مصطلح توصيفي طبي آخر لهذا النوع من الترجمة الفورية، والتي تعني عملياً التبرير لفعل بدون معلومات كافية لمعرفة سبب القيام به، وهو التخريف.
وجد جازانيجا أن التخريف في مرضى انقسام الدماغ حدث عندما أُجبر المترجم الأيسر على تبرير فعل ما دون معلومات من النصف الأيمن من الدماغ عن سبب حدوثه. هذا يعني أنه عندما كان الدماغ الأيسر لا يعرف ما كان يفعله الدماغ الأيمن، فقد قام ببساطة بتكوين قصة بعيدة عن الحقيقة لشرح القرار. وكانت قصة يعتقد المريض حقاً أنها حقيقية.
والملاحظة الأكثر إثارة للدهشة فيما يتعلق بمرضى انقسام الدماغ هو أن كلا الجانبين من الدماغ يقضيان وقتاً أطول بكثير في العمل معاً ومشاركة المعلومات بدلاً من العمل بشكل مستقل في دماغ سليم. بالفعل إنهما يعملان معاً، وكلاهما ضروري للفكر المعقد.
فكرة أن الدماغ نمطي– أي أن مناطق الدماغ المختلفة لها وظائف مختلفة – لم تعد مقبولة في علم الأعصاب المعاصر. بدلاً من ذلك، لا بد من مقاربة وظائف الدماغ بكونها عبارة عن شبكات أو دوائر من المناطق المتقاربة أو المتباعدة تشريحياً في الدماغ والتي تعمل معاً. وهو ما يعني بأن الإنسان العاقل السليم يحتاج لنصفي دماغه دائماً للقيام بأي من وظائفه العقلية سواء كانت منطقية أو إبداعية ولا يمكنه الاتكاء على نصف واحد منها للقيام بما يطلب منه بكفاءة.
عمليات استئصال نصف الكرة الدماغية
المرضى الذين تم استئصال نصف أدمغتهم جراحياً يوضحون بشكل عملي الشكل الواهي لتفارق وظائف الدماغ. يُطلق على إزالة نصف الدماغ اسم استئصال نصف الدماغ، وهو علاج أخير للمرضى الذين يعانون من تلف نصف كرة دماغي يهدد أو يضر وظائف ما تبقى من الدماغ.
عملية استئصال نصف الكرة الدماغية أمر نادر الحدوث. يتم إجراؤها عادةً على الأطفال الذين تتمتع أدمغتهم بفرصة استعادة وظيفة أفضل من تلك الخاصة بالبالغين، ومن الثابت جيداً أن الوظائف الأساسية في الدماغ السليم، مثل اللغة، يمكن إعادة ربطها بنصف الكرة الآخر، خاصةً إذا كان المريض صغير جداً.
يوضح هذا التجديد في الربط إحدى القوى الخارقة للدماغ، وتدعى اللدونة الدماغية، والتي تتمثل في القدرة على إعادة استخدام البنى التشريحية المتبقية للقيام بالوظائف الدماغية المهمة عندما تتضرر المناطق التي من المفترض أن تنفذها. تظهر هذه اللدونة بشكل لافت في أدمغة الأطفال، وتكون على أشدها قبل أن يطور الطفل مهاراته الحركية واللفظية والإدراكية، وحتى بعد أن تبدأ هذه الوظائف في التطور وقبل أن تتكامل. ومن اللافت للنظر أن هؤلاء المرضى يمكنهم الاستمرار في عيش حياة طبيعية بشكل مثير للإعجاب. بما يشي أن الدماغ له قدرة تكيفية خارقة تتمثل في لدونته العصبية وقدرة بناه التشريحية المختلفة على التكامل فيما بينها، وعضد بعضها، والحلول محل الغائب أو المؤوف منها بشكل مثير للإعجاب يسعى لتأمين أكثر مستوى من التكيف للإنسان الموجود في جمجمته.
______
*تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز التثقيف الصحي المستمر في لندن.