مسؤوليات النخبة في المجتمع
عبد اللطيف طريب
حكى لي صديق أن أستاذاً مغربياً يدرس في جامعة كندية منذ سنوات قليلة فحسب. ما فتئ يحاول باستمرار الترشح لمنصب شاغر بالجامعة المغربية ليدرس ذات التخصص، وأنه ملح في تحقيق هذا المطلب رغم فشل محاولاته الأولى. فاعتقدت للوهلة الأولى أن لدى الشخص من الارتباطات العائلية أو الالتزامات المحلية أو الحنين للبلد وأهله وما إلى ذلك الرغبة في إفادة بلده بعلمه. أو شيء يستحق التفريط في منصب جامعي بدولة متقدمة مثل كندا، إلا أن المفاجأة كانت صادمة عندما علمت من صديقي أن سبب رغبة هذا الأستاذ في الالتحاق بالجامعة المغربية مضحياً بامتيازات الجامعة الكندية يرجع إلى أن هذه الأخيرة تفرض على الأستاذ الجامعي تعاقداً صارماً يقضي بمداومة البحث العلمي والدراسات ونشر الأبحاث في المجلات المتخصصة.
وهي عوامل أساسية في استمرار المنصب والترقية وهو النظام المعمول به في الجامعات هناك. لذلك أنه فضل الجامعة المغربية التي ستعفيه من كل هذه “الأعباء” بمجرد تولي المنصب، حيث التفرغ والراحة أو الاشتغال بالمشاريع الخاصة مع تدريس بضع ساعات في الأسبوع، ثم التمتع بدور الأستاذية الوهمية وما تستتبعه من طقوس “سيكولوجية الإنسان المقهور”.
هذا مجرد مثال واحد من أمثلة عديدة، وفي مجالات متنوعة، فكيف يمكن أن ننتظر من مثل هؤلاء الذين يفترض فيهم القيام بواجب الريادة في الإصلاح والبناء والتنمية، أن يساهموا في نشر العلم والفكر والتطور بما يقضي على نسب الأمية المرتفعة في بلادنا، وهم يحتاجون إلى إعادة تأهيل وتبصير بأدوارهم في الحياة.
فارق كبير للمقارنة بين تفكير هذا الأستاذ الجامعي، وبين ذلك الطالب الياباني الذي ابتعث من بلده لدراسة الميكانيك في ألمانيا والرجوع بشهادة الدكتوراة في هذا التخصص. إنه تاكيو أوساهيرا الذي لم يقتنع بما تقدمه الحصص النظرية في جامعة هامبورغ في الوقت الذي يريد فيه أن يتعلم حقيقة صناعة المحركات بدل الاكتفاء بشهادة “صورية” يرجع بها إلى بلده ليردد ما لقنوه ويمارس الأستاذية على قومه. كانت البوصلة عند تاكيو أوساهيرا قوية إلى درجة جعلته يتخلى عن متابعة الدراسة للحصول على مجرد “شهادة/ دبلوم” وينفق جهده وماله لتعلم صناعة المحركات بنفسه. وكان له ما أراد من نجاح حقيقي له ولبلده. وأثمر رجوعه إلى وطنه صناعة عشر محركات يابانية هي الشرارة والبداية لدولة اليابان الصناعية.
أي درس في الوطنية يمكن استفادته من تجربة ذلك الطالب الياباني، وأي دور لأهل التربية والتعليم والثقافة في بلادنا إن لم يكن له أثر حقيقي في الواقع، ففي بلد مثل المغرب، يكفي أن تكون إحدى الحقائق الصادمة أنه يعتبر من أكثر الدول إنفاقاً على قطاع التربية والتعليم (34% من الميزانية العامة) وأن مردودية هذا القطاع من أضعف النسب مقارنة مع دول تنفق أقل بكثير وتحصل على نتائج أفضل.
ولأن الطبيعة تأبى الفراغ، فقد كان لا بد من ظهور من يقوم بمهام النخب التي تهالكت نفسياً وعقلياً ومعرفياً إلا ما ندر، فقد استفاق المغرب قبل أعوام على مشروع وتوصيات تقدم بها رجل أعمال ومقاول إشهار إلى السلطات العليا في البلاد تتعلق بإصلاح التعليم والتوصية بضرورة اعتماد اللغة الدارجة في التعليم من أجل النهوض بهذا القطاع و”محاربة الأمية” معتبراً أن سبب فشل التعليم هو اللغة العربية التي تتسبب في الهدر المدرسي من وجهة نظره وأن شباب اليوم لا يستطيع مسايرتها. ورغم أن الأمر مثير للشفقة والسخرية من هذا الطرح من كل النواحي خاصة العملية والمعرفية، إلا أن ترويج مناقشته في المنابر الإعلامية والسياسية يوحي بدرجة خطورة تدبيرات “المقاولاتي” للمجتمع والنشء الصاعد، في ظل غيبة واضحة لأهل الشأن ما يؤكد أن انسحاب المثقفين والمربين والنخب الحقيقية من ممارسة ادوارهم وتحمل مسؤولياتهم هو خيانة للوطن والمجتمع.