ما هو علم الأخلاق؟
في وقتنا الحالي ونحن نواجه غزوًا ثقافيًّا ضخمًا منذ سنوات طويلة أدَّتْ إلى تغيُّر جذريّ في بنيتنا الداخليَّة المُوجِّهة لنا وسلوكنا. واسمهما المُتعارف عليه الفكر والخُلُق. وإذا أردنا أن نقاوم هذا الموقف لا بُدَّ أنْ نعرف أكثر عن الذي نتعامل معه. فكُلَّما عرف أيّ شخص عن الشيء الذي يريده دقائقه وتكوينه وتشريحه سهُل عليه أنْ يُحسن التعامل معه ويجيد إدارته. وموضوعنا هنا عن “الأخلاق” هذا اللفظ الذي قد يبدو واضحًا أمام أعيينا، لكنَّه في الحقيقة ليس واضحًا. بل نرى كثيرًا من الناس الذي يطالعوننا بكتاباتهم أو بكلماتهم على الشاشات -بالحق وبالباطل والأخير هو الغالب هذه الأيام- يذكر أمامنا الكثير من المصطلحات أو يشير إلى “علم الأخلاق” ونحن لا ندري عمَّا يتحدث شيئًا. لذلك أيضًا لا بُدَّ من الاهتمام ولو بمقال لمعرفة ما هو هذا العلم.
ولعلَّ كثيرًا مِنَّا لا يعرف أنَّ للأخلاق علمًا، بل قد يدهشه هذا الأمر. لذا هنا سنطوف سويًّا وباختصار لنعرف شيئًا قليلاً عن علم الأخلاق وبنيته العُظمى. وقبلها نحاول الإجابة عن سؤال صعب للغاية هو: لماذا الأخلاق صعبة ومُحيِّرة، بل أعدُّه على رأس المشكلات الصعبة في التفكير الإنسانيّ كليَّةً؟
- تعريف الأخلاق و”علم الأخلاق”:
قبل الدخول في “علم الأخلاق” نُعرِّف الأخلاق نفسها. حيث نُطالع في “المُعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة” -د/ عبد المنعم الحنفي- تحت مادة “أخلاق”: جمع خُلُق وهو السَّجيَّة والعادة والطبع. ويردُّها البعض إلى مَلَكَة أو حسّ تصدر بها الأفعالُ عن النفس بسهولة من غير تقدُّم فكر، فغير الراسخ من صفات النفس كغَضَب الحَلِيم لا يكون خُلُقًا”.
و”علم الأخلاق” أحد العلوم الإنسانيَّة. التي مجالها الوحيد هو “الإنسان”، بل أخصّ خصائصه؛ التي يتفق الجميع على أنها تميِّزُه عن غيره من المخلوقات، وهي أفعاله الإراديَّة، أيْ التي تقصد إلى هدف فكريّ أو عاطفيّ بوعيٍ واختيار. فالإنسان في نظر علماء الأخلاق –وكثير غيرهم- “حيوان أخلاقيّ”، بل إنَّ الأخلاق هي دليل إنسانيَّته، وغاية إنسانيَّته عند كثيرٍ من الناظرين.
و”علم الأخلاق” هو العلم الذي يتناول بالدرس والفحص والتحليل والتنظير هذه “الظاهرة الأخلاقيَّة” للإنسان، مُريدًا بذلك أغراضًا متنوعة، حسب الاتجاه الذي يسلكه الدارس، أو المُفكّر الذي يتناوله بالدرس والتحليل. وبالقطع لأنَّ الإنسان كائن مُعقَّد غايةَ التعقيد؛ كانت أخلاقه مُعقَّدة كمثل تعقيده. وكانت مشكلة “علم الأخلاق”، ودراسة الأخلاق –بالعموم- أصعب، وأشدّ تعقيدًا.
- لماذا “الأخلاق” على رأس المشكلات الصعبة؟
أحاول الإجابة عن هذا السؤال بالغ الصعوبة فأقول: إنَّ التعقيد والتشابك الشديديْنِ اللذيْنِ في الأخلاق يرجعان إلى أنَّ:
- الأخلاق هي ألصق الأشياء بالإنسان من أفعاله الخارجيَّة؛ حيث كلُّ تصرُّف من الإنسان صادر عن خُلُق، وهو ذاته خُلُق.
- الأخلاق هي ألصق التكوينات داخل البنية الإنسانيَّة؛ حيث هو المُكوِّن النهائيّ لمجموع طبائعه، وغرائزه، وما يفكِّر فيه، وما يشعر به. مُوجَّها بما يتعلمه من التلقين المباشر، أو خبرة الحياة، وبتعاليم الديانة التي يدين بها، أو الاتجاه الفكريّ الذي يعتقده. ويستقرُّ كلُّ ما سبق في مواجهة المُجتمع؛ الصغير (العائلة)، والكبير (الدولة أو المدينة). وهذا ما يجعل الأخلاق هي أعقد مُنتج إنسانيّ.
- الأخلاق ذات شأن حاسم في كون الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، وبالقطع لها اليد الطولى في حسم كثير من رؤية المجتمع للفرد، أو من رؤية الفرد للمجتمع.
- الأخلاق هي المشكلة الفكريَّة الوحيدة التي يواجهها المرء في حياته جميعها؛ حتى تكاد تلازمه في كلّ نَفَس. وكذلك فإنَّ هذه “المشكلة الأخلاقيَّة” ألصق المشكلات بحيِّز التنفيذ العمليّ، فطابعها العمليّ هو الأبرز، وطابعها الفكريّ الشعوريّ هو الأخفى. لكنها تجمع في الآن نفسه هذين الطابعين معًا. حتى يكاد فيها يكون التفكير عمل، والعمل تفكير. حتى إنْ فصل -فرضًا- صاحب الفكر الأخلاقيّ فكرَه عن العمل، فأكيدٌ أنَّ فكره هذا له التأثير الأكبر في نظرته عن الآخرين، بل عن الكون كلّه بالأحرى.
- الأخلاق هي المشكلة الفكريَّة الوحيدة التي لا يستطيع إنسان أنْ يتغافلها. فكثير من المشكلات الفكريَّة يتغافلها الإنسان، ويكسل عن التفكير فيها، وتدوال الرأي مع غيره. لكنَّ أيًّا من البشر لا بُدَّ أنْ واجه نفسه مرَّات بأفعاله، وأحاسيسه الأخلاقيَّة، وهل أفعاله تدخل في حيِّز “الخطأ أم الصواب”، “الخير أم الشرّ”؟! وهل إذا كانت في قائمة الخير هناك ما هو خير منها؟! .. أكيدٌ دارَ في خلده السؤالُ الأعظم: كيف أكون سعيدًا؟! .. وكل إنسان يتعرَّض لرضا الضمير الداخليّ، أو سخطه وتأنيبه. فهي المشكلة التي لا مناص منها، من بين كلّ مشكلات الفكر الأخرى، بما فيها المشكلة الإلهيَّة.
ما ذكرتُه هو بعض الأسباب فقط. وراعيت فيها الشمول حتى لا يخرج إنسان منها؛ مهما كانت ديانته. أمَّا إذا أدخلنا الديانة في حُسباننا؛ فستزداد هذه القائمة من الأسباب كثير الشيء. فما بالنا و”علم الأخلاق” هو المُختصُّ بدراسة هذه الكمّ من التعقيد الذي سبق. ابتغاء تحليله، وفحص كلّ جزئيَّة منه، وإعادة تركيبه مرّات عديدة على حسب اتجاه مَن يتَّجه.
- تكوين “علم الأخلاق” بين العلوم:
ولأنَّ “علم الأخلاق” واسع هذا الاتساع. مُتحقَّقٌ فيه الجانبان –الفكريّ والعمليّ- فبنيانه وجسده يُستقى من عدد من المعارف غيره أبرزها:
- الفلسفة: وهي –هنا- الفكر المُجرِّد في ماهيَّة الإنسان، وأخلاقيَّتِه، ودوافعه لهذه الأخلاقيَّة، وضميره. وغرضها بحث المسألة الأخلاقيَّة برُمَّتِها؛ بحثًا فكريًّا فلسفيًّا.
- علم الاجتماع: ويرفد “علم الأخلاق” حيث يضيف للعلم ما هو كائن من أخلاق الشعوب، والأفراد فيها، وسلوك وأخلاقيَّات الطبقات المختلفة من كلّ شعب. وبهذا يضيف كثيرًا لثراء هذا العلم.
- اتجاهات أخرى: مثل “علم النفس” الذي يؤثر تأثيرًا واضحًا، وهو أحد الموائد التي يقتات منها “علم الأخلاق” لينمو، وليرفد كلٌّ فيه اتجاهَه –إنْ أراد-، وكذلك “التاريخ” الذي يجد علم الأخلاق بين صفحاته أخلاق الإنسان في كلّ عصر.
- تشعُّبات “علم الأخلاق”، والاتجاهان الأكبران فيه:
وبدهيٌّ أنَّ مشكلة كهذه، وعِلمًا كهذا به العديد من الاتجاهات، في بنية العلم، أو أهدافه التي تشكِّل بنيته. حتى لا أفرِطُ في هذه التشعُّبات سأقتصر فقط على أكبر اتجاهيْنِ في هذا العلم (من الممكن أن تراجع الكثير من الاتجاهات التشعُّبيَّة في “القيم الخلقيَّة بين الفكر اليونانيّ، والفكر الإسلاميّ”، د/ المهدي أحمد جحيدر. مثلاً لا حصرًا؛ فقد عقد لها فصلاً كبيرًا). وأكبر اتجاهَيْن من حيث الهدف هما:
- علم الأخلاق المعياريّ: وهو الهدف الأكبر من وراء هذا العلم. ويقصد بهذا الاتجاه تحديد القواعد التي يجب أنْ يكون عليها “السلوك الخيِّر”، وما به يكون “سلوك الإنسان” خيرًا، والمعايير التي نحكم بها على هذا السلوك. فموضوعه الواضح هو تقويم السلوك بوضع نموذج واضح يسير الإنسان على مساره، وتقييم السلوك بالقياس إلى هذا النموذج الذي تقرَّرَ. وهذا الهدف تسعى إليه العديد من المعارف. أهمُّها:
أ- الديانات: حيث يتضمَّن غالبها نظامًا أخلاقيًّا. أو تنبِّه على حزمة أخلاق بعينها تؤيَّدها وتركَّز عليها، وأخرى تبغضها وتحذِّر منها.
ب- الفلسفات: حيث أدخل الفلاسفة التقليديُّون “علم الأخلاق” ضمن مجالاتهم المعياريَّة الأخرى؛ فوضعوه على قدم المساواة مع “علم المنطق”، و”علم الجمال”. وقالوا بأنَّ موضوعه هو قيمة “الخير”، كما أنَّ موضوع المنطق هو قيمة “الحقّ”، وموضوع الاستطيقا (أو علم الجمال) هو قيمة “الجمال” (ومن الممكن أنْ تجد استزادة الموضوع في كتاب “مشكلة الفلسفة” لأستاذ الفلسفة الكبير “زكريا إبراهيم”). وذهب كلّ فيلسوف، وكلّ مذهب فلسفيّ يضع رؤية كاملة للأخلاق.
- علم الأخلاق الوصفيّ: وهذا اتجاه “علم الاجتماع” في تدخُّله في “علم الأخلاق”. حيث يُسمِّيه “علم العادات”. وقد دعا “ليفي بريل”، ومدرسته الفرنسيّة إلى حذف كلّ فلسفة خلقيَّة ليضع مكانها “علم العادات الاجتماعيَّة”. وهو علم وضعيٌّ يستند إلى معطيات الوقائع الأخلاقيَّة لدى الشعوب عبر تاريخ الإنسانية. وهذا العلم هو بمثابة فيزياء أخلاقية، مناظرة للفيزياء الطبيعية”. وكما نرى روَّاد هذه المدرسة كـ”أوجست كونت”. أتباع هذه المدرسة لا يعترفون إلا بأرض الواقع، بل لا يعترفون بالحقيقة الأخلاقيَّة من أساسها. يقول “دوركايم”: الحادث الأخلاقيّ لا يكون سويًّا في مجتمع معيَّن إلا إذا كان شائعًا في العدد المتوسط من المجتمعات الأخرى التي هي من نوع ذلك المجتمع” -المعجم الفلسفيّ، جميل صليبا-. فكما نرى أنَّ ما استقرَّ عند كثير من الناس أو من أوساط المجتمع فهو لديهم خُلُق لهم؛ أيْ أنَّهم يصفون ما في الواقع لا يقوِّمونه، لذلك فهُم ضدّ الاتجاه المِعياريّ الأوَّل الذي يقيِّم السلوك ويقوِّمه.
- مستويا الدراسة والبحث في “علم الأخلاق”:
- المستوى الفلسفيّ للأخلاق أو “الميتا أخلاق”: وهو المستوى الذي يدرس الأخلاق دراسة نظريَّة فكريَّة؛ ليتوصَّل إلى البنية الفلسفيَّة لها، والعناصر التي تكوِّن الأخلاق العمليَّة، والمفاهيم التي تشكِّل التوجُّه الأخلاقيّ. ولهذا أطلق عليها “ميتا أخلاق”؛ أيْ ما بعد الأخلاق. امتثالاً لمُصطلح “ميتافيزيقا” أيْ ما بعد الطبيعة. يعنون أنَّهم يدرسون ما هو أبعد من مُفردات الأخلاق كالصدق، والكذب مثلاً. بل يبحثون المشكلة الأخلاقيَّة، وطبيعتها، وطبيعة “الخير”، و”الشرّ” في الإنسان، وفي الكون، والضمير، والإلزام الخُلُقيّ… إلخ. وإنْ أردنا التلخيص أقول: هو المستوى الذي يدرس المُعطيات الفكريَّة التي ستحدِّد بشكل حاسم –أراد صاحبها ذلك أمْ لمْ يُرِدْ- كلّ المنظومة العمليَّة الأخلاقيَّة.
- المستوى العمليّ للأخلاق: وهو المستوى الأقلّ من حيث الفكر. حيث يدرس هذا المستوى الأخلاق العمليَّة، أو المُفردة. مثل: الصدق، الكذب، الشجاعة، الخيانة، الوفاء. وهذا المستوى يشترك في الإدلاء بالرأي فيه الديانات –كمُحدِّد أوَّل للمنظومة الأخلاقيَّة العمليَّة-، والتفكير الدينيّ، وكتب الآداب العامّة، والخاصّة، ورسائل الأخلاق العديدة في كلّ الثقافات، و”علم الاجتماع” الذي يدرس أخلاق البشر؛ أفرادًا وجماعات.
- بعض الاتجاهات المُنكِرة للأخلاق:
هناك بعض الاتجاهات المُنكِرة للأخلاق. أهمُّها:
- اتجاهات فرديَّة: وهي آراء فرديَّة لبعض الأفراد في المجتمع تكون مُنكِرة لوجود الأخلاق بالعموم. ولكنها لا تؤثر على الاتجاه العامّ تأثيرًا كبيرًا. لانعدام اتصالها بالرأي العامّ؛ إلا عن طريق دائرتها الضيِّقة.
- بعض الاتجاهات الفكريَّة: وتمثِّلها جميعًا مَظلَّة عظمى يُطلق عليها “العَدَميَّة الأخلاقيَّة” حيث تنكر هذه من الأساس وجود أخلاق أو منظومة لها. مثل اتجاه مدرسة “الوضعيَّة المنطقيَّة”؛ “الذي ينكر أصلاً وجود “قضايا أخلاقيّة”؛ فيذهب “كارنب” 1891م إلى أنَّ القضايا الأخلاقيّة لا تنطوي على أيّ بحث في الواقع، بل هي بحث مزعوم فيما هو خير، وما هو شرّ … والأحكام الأخلاقيّة مجرد تعبيرات عن العواطف والانفعالات” -الجملة الأخيرة المُنصَّصَة منقولة من كتاب “القيم الأخلاقيَّة السابق ذكره-.
وما يهمني في هذا العرض أنْ أبيِّنَ أنَّ “علم الأخلاق” به الكثير من الصعوبة، والعديد من المذاهب، والاتجاهات، والفلسفات، وأنّ البحث الأساس فيه ينصبُّ على جانبَيْن “ميتا الأخلاق” أو ما يمكن أن أسميَّه “نظريَّة الأخلاق”، و”الأخلاق العمليَّة” المُفردة. هذه كانت نبذة شديدة الاختصار عن علم الأخلاق، ولعلَّ الله -تعالى- يمنُّ علينا بالفرصة التي نتعرَّف فيها على علم الأخلاق في الإسلام عن قريب.
_______
*عبد المنعم أديب/ كاتب.