د. حسن مدن
في مرحلة معينة من أعمار أبنائنا وبناتنا نكفّ نحن عن أن نكون معلمين لهم، أو أن مساحة ما يمكن أن نقدّمه لهم من معرفة تتضاءل وتضيق، قياساً إلى ما باتوا يملكونه هم من معارف ومهارات وما يتمتعون به من سعة أفق، فتنقلب الأمور، فيغدوا الأبناء والبنات هم من يعلموننا ويمدّوننا بمعلومات ما كنا سنصل إليها بأنفسنا، وعلى مهاراتهم المختلفة سنعتمد في التعامل مع ما هو جديد في دنيا العالم التقني. أعتقد أن هذا ينطبق علينا جميعاً، ولو تحدثت عن تجربتي ككاتب عمود يومي أحتاج إلى فكرة جديدة كل يوم كي أكتب عنها فإني كثيراً ما ألتقط من أحاديث ابني وابنتي، وما ينقلانه من معلومات، أو يريانه من انطباعات عن مشاهداتهما، ما يلهمني في الكتابة.
الدكتور عبد الجبار الرفاعي أشار إلى الفكرة نفسها، حتى إنه قدم لكتابه الجديد بالعبارة التالية: “تعلمت من أبنائي أكثر من آبائي.. تعلمت من تلامذتي أكثر من أساتذتي”. حمل كتاب الرفاعي عنواناً لافتاً وجاذباً هو: “ثناء على الجيل الجديد”، ويأتي العنوان مخالفاً، بل ناقضاً، لاعتقاد سائد خاطئ لدى المخضرمين قائم على نظرة سلبية تجاه الأجيال الجديدة التي توصف بالضائعة والتائهة، الفاقدة للرؤية حول ماذا تريد، وفي المفاضلة بين الآباء والأبناء، يجنح الأولون إلى وصف أنفسهم بأنهم كانوا، وهم في أعمار أبنائهم، أكثر حكمة وجدية ووضوحاً في الرؤية، ويترحمون على زمن ولى ولم يعد، دون أن ينتبهوا إلى أن «الزمن الجميل» مفهوم نسبي وملتبس جداً، والنظرة إليه تختلف باختلاف الأجيال.
يقف الرفاعي عند هذه المسألة بالذات، ملاحظاً أن الجيل الأكبر في نظرته للجيل الجديد بأنه ضائع ولا يعرف ماذا يريد، يخطئ مرتين، الأولى لأن “عقل الشباب اليوم أنضج، ووعيهم بالحياة أعمق منا حين كنا في مرحلته العمرية. عالمهم مركب وعالمنا بسيط. عالمهم متنوع وعالمنا أحادي، عالمهم نسيج معقد تتلاقح فيه الهويات وتتفاعل فيه الثقافات ويتوحد في موكب واحد”.
هذا عن الخطأ الأول، أما الخطأ الثاني الذي يقع فيه الجيل الأكبر فيتمثل في اعتقاد هذا الجيل بأنه كان يعرف ماذا يريد، وهنا يتساءل الرفاعي: كيف “يعرف هذا الجيل (الكبير) ماذا يريد وهو لم يكتشف حتى ذاته الفردية؟”، كونه جيلاً ولد في زمن كان المتاح فيه من وسائل المعرفة محدوداً قياساً إلى ما هو متيسر للأجيال الجديدة، والذي ييسر لها ولوج دروب متعددة في الحياة والمعرفة، ويمكّنها من النهل من روافدها المختلفة والمتزايدة يوماً عن يوم، “والتي تسهم في إنتاج أنماط وجوده، وطرائق عيشه، ووسائل تواصله مع ما حوله” حسب الكاتب.
*المصدر: التنويري.