المقالاتفكر وفلسفة

في مدى استقبال توماس هوبز

المدرسة الدولية للفلسفة

استقبال هوبز داخل الأراضي المنخفضة:

سنركز هنا صوب منحى آخر من مناحي استقبال توماس هوبز Thomas Hobbes. لقد عرف الاشتغال بهوبز في هولندا طورا حاسما، إذ لقيت الفلسفة السياسية لهوبز، صدى واسعا في صفوف الجمهور الهولندي. ويعود السبب الرئيسي في حصول الاهتمام بهوبز حسب شونيفيلد Schoneveld،[1] إلى صدور مصنفات المواطن De cive والليفياتان Leviathanداخل الأراضي المنخفضة، مما ساهم في ذيوع «الصيت الدولي لهوبز».[2]

لا شك بأن حظوظ انتشار هوبز في العالم، قد بدأت تكتسب منحى تصاعديا ومستقرا، بفضل العمل الذي قدمه الهولنديون. من معالم حضور هوبز في الأراضي المنخفضة، تنظيم ندوة حوله سنة 1979، من طرف «المدرسة الدولية للفلسفة».[3] كما ظهرت ترجمة هولندية جديدة لكتاب الليفياتان سنة 1985.

   من ناحية أخرى، برز الاهتمام بهوبز داخل الأراضي المنخفضة، من خلال منح الأهمية «لتصوراته الإيتيقية والسياسية».[4] وتميزت الدراسات المخصصة لهوبز، بإخضاع تصوراته للمقارنة مع «نظريات إ. برلان I. Berlin، وج. راولز J. Rawls، وسبينوزا Spinoza وآدم سميث Adam Smith».[5] كما وضعت آراؤه في إطار السياق الحالي، وهو ما وجد تعبيره في استلهام مفاهيمه المتعلقة بالحرية والعقد الاجتماعي، في تشريح وضع الإنسان وتفسير الواقع السياسي.

من جهة ثانية، قامت بعض الدراسات بعقد مقارنات بين أنساق هوبز وسبينوزا، والتي انتهت إلى وسم هوبز بنعت «الملحد المدافع عن الحكم الشمولي»،[6] مقابل سبينوزا، رائد «الديمقراطية البرلمانية».[7] وتقطن قوة هذه الدراسات، في إبراز مواطن الاتفاق، وتوضيح مناحي «الاختلاف بين التصورات السياسية لهوبز وسبينوزا».[8]

وفي سياق آخر، درس شومان Schumann،[9] في مستوى آخر، «العلاقة بين هوبز وفرنسيس بيكون Francis Bacon»،[10] إذ أبرز السمات الخاصة بعملية «نقدهما للمدرسية».[11] كما وضع اليد، على تصوريهما الخاصين «بالصلات بين العلم والتقنية والدور المنهجي للتجربة والرياضيات».[12]

 استقبال هوبز داخل الولايات المتحدة

نلتفت الآن صوب منطقة مغايرة في استقبال هوبز، ونخص بالذكر حضور هوبز في الولايات المتحدة. عرف تلقي هوبز في الولايات المتحدة، تحقيق طفرة مهمة في طبيعة الدراسات المنجزة عن الرجل. وقد توجه اهتمام الأدبيات الخاصة بهوبز، إلى مقاربة «الأبعاد الدينية والخطابية»[13] المبثوثة في كتاباته. واعتبرت هذه الأبعاد، بمثابة عوامل حاسمة للبحث في نظرية السياسة ونظرية المعرفة. كما سمحت هذه العناصر ببناء صورة متميزة عن هوبز، غير الصورة التي درجت حوله، بكونه منظرا للسيادة ومفكرا للحيطة والعلم فقط؛ بل اتجهت لإبراز مقدراته البرهانية وكيفية «عرض مواقفه»،[14] ومدى تمكنه من إقناع القراء بآرائه واستطاعته النفوذ في نفوسهم.

نواجه في هذا الباب، منحى متفاوتا في استقبال هوبز. يعتبر غاري شابيرو Gary Shapiro رائدا في قراءته لهوبز، إذ أبدى تركيزا على الخطابة في مصنف القراءة والكتابة داخل نص الليفياتان لهوبز Reading and Writing in the Text of Hobbesʼ Leviathan، فهي تشكل حسب رأيه «مفتاحا في فهم الليفياتان».[15] لقد شدد شابيرو على أهمية الكتاب الثالث والرابع من الليفياتان، بحيث يفرضان مقاربة خاصة للدين، «تعتمد على التأويل الإنجيلي، ونظرية للتأويل تصل المعنى بالسلطة».[16]

من جانب آخر، حظيت الفلسفة السياسية والأخلاقية لهوبز، نصيبا مهما في الدراسات الأمريكية. وعرف استقبال هوبز في هذا المستوى، تخطيا لحدود الدراسة التاريخية وكذلك تجاوزا لنطاق تاريخ الأفكار، إذ صنفت أعماله «كمصدر لطرق التفكير، عن أصناف المشكلات وأنواع الحلول».[17] يمكن التمييز في الكتابات المكرسة لهوبز «في أمريكا ما بين 1977 إلى 1987، بين ثلاثة أنماط من الدراسات: التاريخية، والتفسيرية أو التأويلية، والمبتكرة أو الهوبزية».[18]

لا شك أن هوبز قد شكل بؤرة للتفكير، حيث حامت حوله إنتاجات غزيرة ملأت ساحة الأدبيات الأمريكية. ننبه في هذا السياق بكون أحد الوقائع اللافتة للنظر داخل هذه الدراسات، تلك المتعلقة «من جهة أولى، بمعالجة هوبز حسب نظرية الأفعال أو نظرية القرار، بصورة أخص، في عمل غوتييه Gauthier، وكافكا Kavka، وهامبتون Hampton، وزايتشيك Zaitchik، ومن جهة ثانية، إعادة تأويل هوبز باعتباره كمؤسس للبيرالية، بالتعارض مع التقليد الذي عده في الآن نفسه إطلاقيا وقانوني ذو نزعة وضعية متزمت».[19]

نشير إلى هيمنة قراءة محددة حول هوبز، بحيث تزايد حجم المفكرين ممن وضعوا فكره في مصاف مؤسسي اللبيرالية، وأسهمت أعمال كوليمان Coleman (1977) وغلين Glenn (1979) في تطور مثل هذا التوجه. واعتبر أصحاب هذا التأويل، بأن هوبز منظرا تقدميا، وليس رجعيا، كما روجت لذلك الأدبيات المناهضة للرجل، التي قالت بأنه كرس نفسه لخدمة الملكية المطلقة أو البورجوازية الصاعدة. كما لفتوا الانتباه إلى مستويات تحليل هوبز لقضايا، «المساواة، وتبرير الثورة، والمعالجة العقلانية للكتاب المقدس، وكذا نزع الطابع اللاهوتي عن السياسة والحق».[20]

لم ينحصر الاهتمام بهوبز في هذا المستوى، بل توسع أفق استمداده وأضحى مرتبطا بالواقع الأمريكي. ومن مظاهر استقبال هوبز في أمريكا، محاولة مجموعة من الدراسات، تحليل القضايا القانونية الراهنة، بتوسل تصورات هوبز من أجل تشريح ظواهر «العلاقات الدولية وقانون الحرب».[21] واتخذت دراسات أخرى، منحى يولي أهمية لمكانة «التربية في احترام الالزام تجاه الجمهورية».[22]

من جهة أخرى، بينت بعض المساهمات، تصور هوبز حول الطبيعة البشرية، ورأت بأنها تمثل أساسا لنظريته الإيتيقية والسياسية. ومن جهة أخرى، جذبت قضية اللغة انتباه بعض المتخصصين في هوبز، حيث خاضوا بمناقشة نظرية التفويض للسيادة، وكان الرهان الرئيسي في هذا النقاش، «توضيح تأسيس سلطة السيادة عبر العقد الأصلي»،[23] ثم تحديد نظرية الإلزام.


[1] Schoneveld (C. W.), « One author: Thomas Hobbes and Holland», in Intertraffic of the Mind-Studies in Seventeenth-Century Anglo-Dutch Translation (Leiden, Brill, 1983), p. 29-62. Dans  Prins J., Hobbes aux Pays-Bas (1970-1986), traduction Moreau Pierre François, archives de philosophie, Op. Cit., p. 281.

[2] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 281.

[3] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 281.

[4] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 282.

[5] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 282.

[6] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 282.

[7] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 282.

[8] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 282.

[9] Schumann K., «Francis Bacon and Hobbesʼ Widmungsbrief Zu De Cive», Zeitschrift für Philosophische Forschung, Band 38, Heft 2 (1984), p. 165-190. In Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 284.

[10] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p.283.

[11] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p. 283.

[12] Prins J., Hobbes aux Pays-Bas, Op. Cit., p.283-284.                    

[13] Barnouw Jeffrey, Rhétorique et religion, traduction Borot Luc, archives de philosophie,facultés jésuites de Paris, Vol. 51, N. 2, (avril- juin 1988), p. 290.

[14] Barnouw Jeffrey, Rhétorique et religion, traduction Borot Luc, archives de philosophie, Op. Cit., 290.

[15] Barnouw Jeffrey, Rhétorique et religion, archives de philosophie, Op. Cit., p. 292.

[16] Barnouw Jeffrey, Rhétorique et religion, archives de philosophie, Op. Cit., p. 292.

[17] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, traduction Luc Foisneau, archives de philosophie, facultés jésuites de Paris, Vol. 51, N. 2, (avril- juin 1988), p. 298.

[18] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, traduction Luc Foisneau, archives de philosophie, Op. Cit., p. 298.

[19] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, Op. Cit., p. 299.

[20] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, Op. Cit., p. 300.

[21] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, Op. Cit., p. 300.

[22] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, Op. Cit., p. 300.

[23] Baumrin Bernard, Rhodes Rosamond, Morale et politique, Op. Cit., p. 301.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات