﴿١﴾
كما هو الحال دائماً، تدور الأرض حول محورها، وتكشف لنا عن نجمٍ قريب تدور حوله أيضاً. وعلى هذا الأساس، نستيقظ. يعود وعينا اليقظ إلى العمل بعد أن تمّ إيقافه لمدّة خمس إلى ثماني ساعات. في الأساس، نحن لا نعرف لماذا نفعل ذلك -لماذا أطفأنا أنفسنا لفترة من الزمن حيث نكون ضعفاء ومعرّضين لكافة المخاطر والشرور المتربّصة بنا. لا أحد يدري لماذا. ومع ذلك، نقضي حوالي ثلث يومنا على هذه الحال كل يوم تقريباً، وهو ما يعادل حوالي ثلاثة إلى أربعة أشهر من كل عام.
وبينما نكون نائمين، نحلم حوالي أربع إلى ست مرّات أحلاماً مختلفة. قد لا نتذكّر منها شيئاً -وقد نتذكّر بشكل غامض واحدا أو اثنين منها، إن حدث وحلمنا. من المحتمل أن تكون أحلاماً غريبة جداً. نحن لا نعرف لماذا نحلم، ولا نعرف لماذا يخلق عقلنا تلك الترتيبات الخاصة من التجارب والذكريات والمفاهيم المتخيّلة الممزوجة معاً في محاكاة عقلية محدّدة ومحَفّزة ذاتياً للواقع. وبين حلم وآخر، لا يكون هناك شيء -غيبوبة ونسيان يشبه الموت نغوص فيه ونخرج منه مع تذبذب طول كل موجة من موجات الدماغ.
بعد هذه الدورة التي لا نَعيها من المحاكاة الخيالية وفقدان الوعي، نستيقظ. قد نقف تحت صنبورٍ يصبّ علينا تياراً من السائل الدافئ أو المنعش. نقوم بفرك أجسامنا أو وجوهنا بمادّة لزجة ونكشط الطبقة الخارجية حتى لا تكون رائحتنا كريهة، لأنّ رائحة النتانة قد تفوح منّا بعد الاستلقاء لساعات وعدم القيام بأيّ شيء. بعد تنظيف أنفسنا، من المحتمل أن نحشو تلك الفتحة الكبيرة في وجوهنا ببعض الأشياء -من شبه المؤكّد أنّها شكل من أشكال النباتات أو الحيوانات الميتة. نحن نحتاج لفعل ذلك من أجل أن نُبقي أنفسنا أحياء. ربما نخرج بعض الأشياء الكريهة من فتحات أصغر على الجانب الآخر من أجسامنا في هذا الوقت أيضاً. سيتعيّن علينا القيام ببعض هذه المهام مرّة أخرى عدّة مرّات على مدار اليوم. قد لا نتذكّر ذلك حتى تبدأ أجسامنا في خلق شعور غير مريح، وتذكّرنا بمواعيد أداء هذه المهام.
﴿٢﴾
من المحتمل أن نتفاعل مع أشخاص آخرين على مدار اليوم. قد نتعاون معهم من أجل تحقيق بعض أهداف العمل. وقد نتفاعل بشكل عرضي مع بعض الأشخاص الذين ولِدنا معهم وتربطنا بهم علاقة بيولوجية، أو قد نقضي أوقاتنا مع أشخاص لا تربطنا بهم أي علاقة بيولوجية، بل فقط قابلناهم وأحببناهم، ونرفض التخلّي عنهم. أياً كان هؤلاء، فمن أجل التواصل والتفاعل معهم سنحاول ترجمة الإشارات الكهربائية في أدمغتنا باستخدام الأفكار والكلمات إلى حركات وتعابير وجهية نرسلها إليهم من شأنها أن تخلق عندهم إشارات كهربائية في أدمغتهم، ليتفاعلوا معنا بدورهم. ومن المحتمل أن نواجه صعوبة خلال هذه التفاعلات غالباً.
سنمرُّ على مَدار اليوم بأشخاص غُرَباء أيضاً -أشخاص لم نقابلهم من قبل، ومن المحتمل ألا نراهم مرّة أخرى. سيتحرّك كل واحدٍ من هؤلاء الأشخاص خلال حياته الفريدة والمعقدّة الخاصّة به، ويختبر هذه اللحظة بنفس القدر من الشعور والمنظور المركزي مثلنا. سوف يروننا كما نراهم -بلا مبالاة، هذا إذا كانت هي كل ما هنالك.
سوف نعيش ونتحرّك عبر سطح الكوكب طوال اليوم بينما ينتقل الكوكب نفسه ويدور عبر مساحة لا نهائية من العَدَم البارد، والتي لم يكن لدينا لا أنت ولا أنا ولا أي شخص آخر عبر تاريخ الكوكب أي فكرة حقيقيّة أو دقيقة عنه. ففي كل لحظة، سوف تنتقل الأرض إلى موقع مختلف في الفضاء، ولن تعود إلى نفس المكان مرّةً أخرى.
﴿٣﴾
سوف نتنفّس. وسترمش أجفاننا. وسيسيل لعابنا داخل أفواهنا طوال الوقت. وسوف تنبض قلوبنا. وسيُضَخُّ دَمُنا. وسيعمل كل هذا الوعاء المعقّد الذي نسمّيه “جسمنا” طوال اليوم، بالكامل تقريباً ومن تلقاء نفسه.
قد تخطر ببالنا أفكار غريبة طوال اليوم -قد نجد بعضها مرهقاً ومُقلقاً. بعض هذه الأفكار قد لا تبدو كبنات أفكارنا. وقد تؤدّي بعض التجارب والتصوّرات إلى رغبات أو أفكار تتعارض مع ما قد نعتبره مقبولاً أو يتماشى مع من نعتقد أنّنا هو أو يجب أن نكون. قد نتساءل لماذا لدينا أفكار لا نريدها، وأي جزء منّا يفكّر فيها. قد نشعر بالاشمئزاز أو الانزعاج من أنفسنا.
قد نشعر على مدار اليوم كما لو كنّا نتنقّل بشكلٍ أخرق داخل قطعة كبيرة من الآلات التي لا نملك طريقة للوصول إلى جميع عناصر التحكّم فيها. على أقلّ تقدير، سنشعر ونختبر غرابة التواجد داخل أجهزتنا الخاصّة حصرياً، وتجربة شيء لا يمكن أيّ أحدٍ آخر رؤيته أو معرفته حقاً.
في نهاية اليوم سنعود إلى مكاننا الخاص لإيقاف تشغيل وإعادة شحن أنفسنا مرّة أخرى. قد نغفو على الفور، أو هذه الليلة على الأقل، وقد نجد صعوبة في إطفاء أنفسنا بسهولة. ربما تكون غرابة كل ما حدث للتوّ، وما زال يحدث -كل ما يفترض أن نفكّر فيه على أنّه طبيعي- يزعجنا ويبقيا مستيقظين. ربما يجعلنا نشعر وكأنّنا غرباء بطريقة يجب أن تكون أكثر حصريةً بالنسبة لنا، لأنّ كلّ من رأيناهم اليوم ونراهم كل يوم بَدَوا على ما يرام وكأنّ شيء طبيعي تماماً.
لكنّنا بَدَونا طبيعيين بالنسبة لهم أيضاً.
﴿٤﴾
في الحقيقة، حتى أبسط الأفعال التي يقوم بها أكثر الأشخاص الطبيعيين والنموذجيين والمستقرّين، إذا ما نظرنا إليها من خلال عدسة مكبّرٍ خاصّة، ستبدو غريبة تماماً. وفي كثير من الأحيان، تعتبر غرابتنا طبيعية تماماً في معظم السياقات. كل هذا جيد وحَسَن، لكن من شأنه أن يجعل ما نسميه “بحالتنا الطبيعية” أمراً غريباً جداً إذا ما قلّبنا الأمر في أذهاننا. يمكن القول إنّ تجارب الغرابة والعزلة والجنون هذه هي أكثر الأمور الطبيعية التي يمكن لأيّ منّا أن يختبرها أو يمرّ بها.
كيف يمكننا ألا نكون قلقين وغرباء إزاء كل ما نشهده؟… سيكون الأمر غريباً لو لم يكن كذلك.
يمكن القول أنّه بدلاً من محاولة الشعور بالغرابة أو عدم اليقين، أو القلق، يجب أن يكون هدف وجودنا هو الشعور بقدرٍ أكبر من الرضا بحتمية هذه الصفات.
واحدة من أعظم المصادر التي يمكننا استكشافها والاستفادة منها لتعزيز هذه الراحة هي الفلسفة. إنّ التفكير في الأشياء بطريقة تأمّلية، وصريحة، وغير مألوفة، كما تدعونا الفلسفة يرفع الحجاب عن الحياة اليومية ويكشف ما هو كامنٌ تحت السطح حتّى نتمكّن من عيش حياة أكثر انفتاحاً وثراءً وقبولاً.
تدفعنا الأفكار الفلسفية والأسئلة والمفارقات والتجارب الفكرية إلى ما بعد حدود منطقة أماننا وتوقّعاتنا، كما أنّها تعدّنا وتجهّزنا للمضيّ في الرحلة السخيفة والعبثية التي تمثّلها الحياة. إنّها تطوّر وتوسّع عقولنا، وتكسبنا طرقاً أكثر حداثة وفعالية للتفكير في أنفسنا والآخرين ووجودنا. نحن نغيّر طريقة تفكيرنا، ونجد عزاءً لغرابتنا وجنوننا.
أولئك الذين يفهمون الطبيعة غير العادية وغير المألوفة وغير المؤكّدة والمعقّدة للأشياء وطريقة سير الأمور في العالم، سيكونون منفتحين على أي شيء ومرتاحين لكل شيء.
*المصدر: التنويري.