فلسفة الأخلاق في الإسلام وصِلاتها بالفلسفة الإغريقيَّة
محمد يوسف موسى ولد في (1899م=1317هـ)، وتوفي في (8 أغسطس 1963م). نال العالميَّة من الأزهر، وتعلم الفرنسية، واشتغل بالمحاماة. ثم عاد إلى الأزهر وعمل مُدرسًا. في كلية “أصول الدين”. ثمَّ سافر إلى فرنسا ونال الدكتوراه من جامعة “السوربون” عن “الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط” بدرجة الشرف الأولى. قد كان على علاقة قوية بالمستشرق “لويس ماسينيون” وقد رشحه للعمل في لجنة “الميتافيزيقا” في المجمع اللُّغويّ في القاهرة. تشهد آثاره العلميَّة على ثقافة جامعة وأصالة فكريَّة وعقليَّة تمقت الجمود. له الكثير من المؤلفات؛ منها في الأخلاق: مباحث في فلسفة الأخلاق، الأخلاق في الإسلام، تاريخ الأخلاق. وفي الفلسفة: القرآن والفلسفة، الدين والفلسفة، ابن سينا والأزهر، فلاسفة العصور الوسطى. وله مؤلفات أخرى في الشريعة والثقافة الإسلامية، ومقالات جُمعت تحت اسم (الإسلام والحياة).
أمَّا كتابه محلّ البحث..
فقد ظهر هذا البحث في عام 1942. وجاءت طبعته الثانية في عام 1945. وهي عن دار “الرسالة” بالقاهرة في ثلاثمائة صفحةً. ثمَّ صدرت ثلاث طبعات عن “دار الخانجي” بمصر، جاءت آخرها عام (1963م). وكانت مادة الكتاب في الأصل دروسًا ألقاها بقسم الفلسفة بكلية “أصول الدين”. وموضوعها تعرُّف مذاهب فلاسفة الأخلاق البارزين وخصائص كلٍ منهم، وردّ أفكارهم إلى الثقافات القديمة وبيان أثر السابق على اللاحق. وهدفه أن نتبين أصول الأفكار الأخلاقيَّة وتطورها. ومقدار ابتكار مُفكِّريها لمعرفة حقوقهم. منهجه فيه التاريخيّ المُقارن.
وتبدو لنا أهميَّة الدراسة في ريادتها للمجال المقارن. وإلقائها الضوء على نماذج لمْ تكُنْ دُرسَتْ مثل “ابن عربيّ”. وقد تمثلت هذه الأهميَّة في اهتمام الوسطَيْنِ العلميّ والثقافيّ بها. من ذلك إفراد صفحات في مجلَّتَيْ “الرسالة والمُقتَطَف” للحديث عنها. واهتمام الباحث الكبير “يوسف كرم” بها واعتباره إيَّاها حدثًا مَلحوظًا في الإنتاج الفلسفيّ الحاضر، وعدُّها قدوة في المجال -راجع مقدمة البحث-.
وقد اعتمد الكتاب من حيث المراجع على اثنين وخمسين مرجعًا عربيًّا، وتسعة مراجع أجنبيَّة. ليكوِّن هيكلاً للبحث من مقدمة، وخمس مقالات سيتناولها العرض.
وقد تميَّز الباحث في بحثه بالجديَّة في البحث والتناول وطلب الحقّ لذاته. والرجوع إلى المصادر الأصيلة في الموضوعات محل البحث. والحرية في البحث؛ من دون التقيّد بمكانة العالِم وهي من سمات المفكر الحرّ. يقول “قد يقودنا البحث إلى أن ينكشف بعض كبار. مُفكِّرينا قليلاً أو كثيرًا، فيظهر وهو ليس مَحُوطًا بما تعوَّدنا أنْ نراه مَحوطًا به من هالات الجلالة”.
أمَّا ما يُؤخذ عليه..
قوله بتأثر العلماء المسلمين بالتوراة والإنجيل بلا دليل إلا مجرد التشابه في بعض الملامح. مع أنَّه أوضح ظهور بعض أفكار “سقراط” مثل الفضيلة والمعرفة عند العرب الجاهليِّيْنَ مع إقراره بعدم وجود تأثر؛ فكيف الحال بوجود تشابه بين الأديان السماوية وهي من مصدر واحد. وكذلك علينا التنويه أنَّ البحث منعقد للكشف عن التأثُّر فلا يظنّ الظَّانُّ أنَّ الأخلاق الإسلاميَّة هي ما في البحث، بل عرض البحث لمّظانّ التأثُّر فقط. وهناك مئات المؤلَّفات -غير القرآن والحديث النبويّ- بها عرض لأخلاق إسلاميَّة صرفة.
أمَّا أسلوب الباحث فيتميز باطراد في مسلكه في الدراسة. فهو يرى قمة البحث ثمَّ يقدم لها بمقدمات منتقلاً شيئًا فشيئًا. مُطبِّقًا ذلك المسلك على النماذج الثلاثة مُحلِّلاً ومُبينًا لما يشكُل من أمور. وهو دائم الاستدلال بالشِّعر يُكثر من هذا. المسلك أكثر من اللازم في سياق البحث العميق. رغم الاعتراف بأنَّ الاستدلال بالآداب هو استدلال من مَعين رئيس ومن مصدر أصيل. وكذلك تميَّز بالاستقصاء للمبحوث والتتبُّع له. وهو يستعين بكلام سابقيه للدخول في الموضوع محل البحث.
المقالة الأولى: التفكير الأخلاقيّ قبل عصر الفلسفة والفلاسفة
استعان الباحث بكلام لباحثَيْنِ فرنسيِّينِ ليصل إلى تقرير حقيقة. هي “أنَّه ما من شعب إلا وله حظ من الأخلاق والتفكير الأخلاقي” إذن فلا بُدَّ أنَّ العرب قد نشأ عندهم هذا الفكر. وقد رصده في ثلاثة مراحل هي:
في الجاهليَّة:
رصد تأثر العرب ببيئتهم في الجمع بين الأضداد في الأخلاق (رحمة وجفاء- كرم ونهب)؛ فبيئة العربيّ إمَّا برد شديد وإمَّا حرّ شديد. والمتأمل في هذه الحياة يتكشف له أن العرب قد عرفوا العلاقة بين المعرفة والفضيلة. ويستشفّ هذا من قول زهير:
ومن يوف لا بذمم ومن يفض قلبه
إلى مطمئن البر لم يتجمجم
وهذا ما قال به سقراط وإن كان زهير لم يفلسف الفكرة.
وأن العرب قد جعلوا “المروءة” مثلهم الأعلى، وهي تقوم على الشجاعة والكرم اللذين هما جماع الفضائل في رأيهم.
وأن العرب قد دارت على ألسنتهم الكثير من الحكم نثرًا وشِعرًا. وراح يورد الكثير من النماذج التي تؤيد رأيه وتدلّ على اهتمامهم بالشجاعة والكرم والوفاء. ولكن العرب لم يفعلوا. هذه الأفعال للخير في ذاته، لكنْ حُبًّا للمُفاخرة واتقاءً للذم. ويستدل على ذلك بقول حاتم الطائيّ:
أمَا والذي لا يعلم السِّرَّ غيره
ويُحيي العِظامَ البيض وهي رميم
لقد كنتُ أختار القِرى طاويَ الحشا
مُحافظةً منْ أنْ يُقال لئيم
ويقرِّر أنَّ هذا شأن لا يعيب. ويؤكد على أنَّ العرب قد اتفقوا مع سقراط “العلم الفضيلة” من غير علم لهم به.
في الإسلام:
جاء الإسلام فلم يُنكِرْ إلا المَرذولَ منها، فظلَّ العربُ على تدارسُهِم الحِكَم. ولكنَّهم تأثَّروا بالإسلام. ويلحظ ذلك في تركيز. “ابن عبد ربه” جمع مكارم الأخلاق في قوله تعالى: (خُذْ العفو، وأمُر بالعُرف، وأعرِضْ عن الجاهلين). والعرب قد تأثروا في هذه الفترة بمصادر دينيَّة هي القرآن والحديث والتوراة والإنجيل!، وفلسفيَّة عن اليونان، وأدبية عن الفُرس والهنود. على أنَّ الفلسفة اليونانيَّة كانت موجودة في آداب الفرس. فالفرس دخلوا الإسلام، ولكنهم احتفظوا بهُوِّيَّتِهم وتقاليدهم.
والمُريد أن يطالع التفكير الأخلاقي في هذه الحقبة فعليه بكتب الأدب، والتي أوضحت للباحث أنَّ العرب قد عرفوا ما للطبع والأخلاق من وثاقة فالإنسان شعور وغرائز تؤثر في سلوكه. وأنَّهم قد عرَفُوا مبدأ “الفضيلة المعرفة” الذي أثاره سقراط. وذلك في مثل قولهم: “لولا العمل لمْ يطلب العلم”. وقد عرَفَ العرب التوسُّط كقيمة، وقالوا: “دين الله بين المقصر والمُغالِيْ”. وقد عرفوا الفضائل الكثيرة مثل الصبر والحلم والتواضع.
وهنا يستوقفنا الباحث بادعائه تأثُّر المسلمين بالمسيحيَّة واليهوديَّة. من غير دليل مُطلقًا إلا أخلاقًا مُتشابهةً بين الإسلام وغيره مثل (الحِلم ودفع السيِّئة بالحسنة في المسيحيَّة،
والشُّكر على المعروف في اليهوديَّة). ولم يأتِ الباحث بأيّ دليل إلا هذا التشابه. مِمَّا لا نتفق معه فيه فمُجرَّد التشابه لا يعني التأثر، وهو نفسه قد رصد اتفاق العرب مع سقراط من غير تأثُّر! .. وقد نلاحظ أثرًا لهذا الحوار عن مصدر التصوُّف. في الإسلام -الذي كان دائرًا عصرَ الباحث- وهو يُوردُ التشابه بين الإسلام والمسيحيَّة مُستدِلًّا بحديث “لا رهبانيَّة في الإسلام”، وأنَّه دليل على تأثُّر المسلمين بالمسيحيِّيْن!
ويرصد الباحث أنَّ العرب قد قاسوا الأخلاق بتقاليدهم الجاهليَّة النبيلة وهدى القرآن والسُّنة، وأنَّ السعادة الكبرى عندهم -بجانب اللذات الجزئيَّة- هي سعادة الآخرة. ويؤكد الباحث أنَّ العرب تأثروا بالفرس أكثرَ من غيرهم لقربهم من ثقافتهم، ولاتصالهم بهم مثل كتب “ابن المقفع” (كليلة ودمنة-الأدب الصغير).
عند المُتكلِّمين:
رأى الباحث أنَّ هذه الفترة حلقة اتصال بين عصر الفلسفة وسابقها؛ فظهر فيه المعتزلة وأدخلوا العقل وأفادوا منه. ومظاهر التفكير الأخلاقيّ في هذه الفترة لخَّصَهَا في النقاط الآتية:
الخلاف حول التحسين والتقبيح أهُما عقليَّانِ أم شرعيَّانِ؟ أيْ أنَّ العقلَ هو ما يُدرِك الحُسن والقُبح في الأفعال أمْ الشرع. فرأى أهل السُّنة أنَّ هذه المسألة مردُّها إلى الشَّرع، ورأى المُعتزلة أنَّ مردَّها إلى العقل؛ فما رآه العقل حسنًا كانت الإثابة عليه، وعكسه كانت العقوبة واجبة. وقد اعتمد في هذه المسألة على “جولدتسيهر” المستشرق اليهوديّ. وإنْ كان الخير والشرُّ إضافيَّيْنِ من أمر الله ونهيه عند أهل السنة، فهُما عند المعتزلة ذاتيَّانِ؛ أيْ أنَّ أهل السُّنة يرون نسبيَّة الأخلاق، والمعتزلة يرون إطلاقها.
وقد اختلفوا في الجبر والحرية (المسئوليَّة الأخلاقيَّة) فذهب المعتزلة إلى الحريَّة الكاملة. ورأى الباحث أنَّ أهل السُّنة قالوا كلامًا لا يخرج عن الجبر.
وقد ذهب المعتزلة إلى أنَّ العمل من الإيمان. فقد جعلوا مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتَيْنِ وبهذا اقتربوا من مذهب أفلاطون في أنَّه رأى الآثم مع معرفته الخير صاحب معرفة غير حقيقية.
وقد رأى الباحث أنَّ المعتزلة قد ذهبوا إلى مذهب المنفعة العامة وعملوا على إدراكها. فقبلوا الألم من أجل الخيرـ ورفضوا الخير القليل في سبيل الخير الكثير.
المقالة الثانية: الحالة العامَّة في عصور الفلاسفة
قدَّم الباحث بألَّا غنى عن دراسة العصر؛ لأنَّ الفيلسوف أو الأديب دائمًا صورة عصره. وقد درَسَه من ثلاثة محاور، حاصرًا حديثه على القرنَيْنِ الرَّابع والخامس.
1- الخلافة والإدارة: تقول مطالعة كُتُب التاريخ إنَّ الدولة العباسيَّة. في هذا الوقت كانت تمر بأضعف عصورها. بدأ هذا منذ استقدم المعتصم. (227:218هـ) الأتراك جُندًا فاستولوا على الخلافة وتحكموا فيها. وبذلك ظهرت آثار الضعف من انقسام للخلافة إلى دويلات مثل الحمدانية بالجزيرة – السامانية فيما وراء النهر.
وكذلك استشرى الفساد الإداريّ وضاعت هيبة الخلافة. وظهرت المصادرة والرشوة؛ فالأمير يصادر وزيره، والوزير يصادر من دونه والعامل يصادر الرَّعيَّة. وظهر أيضًا كثرةُ التولية والعزل تبعًا للرشوة، وكثرة الجور والفتن بين السُّنة والشيعة. وقد ذكر المُؤرخ “المَسعوديّ” هذا وشكا إلى الله منه قبل استفحال الأمر.
2- الحالة الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة: وقد استشهد الباحث بكتب التاريخ ليُدلِّل على سوء الحالة الخُلُقيَّة. وقد كثر المُجُون والدعارة، وانكبَّ الخلفاء والوزراء على اللهو، وسرى الداء في الأمة، وكثر الدسُّ والوقيعة. وأحال المُرِيدَ التثبُّتَ إلى كتاب “مَثالب الوزيرَيْن” للمطالعة والتأكد.
3- الحالة العِلميَّة: وقد كانت الحالة العلميَّة مُغايرة تمامًا. فقد كان عصر ازدهار العلوم والفلسفات. ويرجع الباحث ذلك إلى حبِّ العباسيِّيْنَ للعِلم والعلماء، وظهور الأمراء الكثيرين المُحبين للعلم والمُشجعين له. وكذلك وجد العلماء في كنف هؤلاء
الأمراء الرعاية والحماية. وكانوا يلجأونَ إلى الأمير فرارًا من الآخر مثل “ابن سينا”.
ومن مظاهر الازدهار إجراء الأرزاق من “عضد الدولة ابن بويه” على المُتكلمين والمُحدِّثين والعلماء. ونبوغ الوزراء في العلم مثل “ابن العميد” في الفلسفة. وظهور دور الكتب الضخمة مثل دار “ابن العميد”. ومظهر آخر هو ظهور المكتبات المُزوِّدة للعلماء لإفادة المُتردِّدين عليها؛ منها داران أنشأهما أحد حاشية عضد الدولة؛ واحدة في “رامهرمز” والأخرى في “البصرة”. وهناك “المدرسة النظاميَّة” ببغداد التي درس فيها كثير من الأعلام مثل “الغزالي”. وقد برزت الكثير من الأسماء في هذا العصر: الفارابيّ (339هـ)، أبو الفرج الأصفهانيّ (356هـ)، القاضي عبد الجبار (415هـ)، ابن سينا (428هـ)، الخطيب البغداديّ (463هـ)، الخطيب التبريزيّ (502هـ).
المقالة الثالثة: “مَسكَوَيْهِ”
ترجمته: ولد بالريّ (330هـ)، ورحل إلى بغداد حيث عمل في كنف الوزراء البُوهيِّينَ خازِنًا لكُتُبهم. وقد رجَّح الباحث اسم “مسكويه” على “ابن مسكويه”. وصحَّحَ ما نقل عن مجوسيتَهُ وأنَّ جدَّه هو المجوسي. وقد توفي بأصبهان (421هـ). وقد أدرج الباحث عهدًا طويلاً قطعه. مسكويه على نفسه بالتزام حُسن الأخلاق مَخْلَفَةً لعصره. وقد تناوله الباحث من خلال. رأيه في عدة موضوعات ونزعات.
وتحرَّى تأثُّره بالإغريق وهذا ملخص التناول:
1- الخُلُق: عرَّفه مسكويه بأنَّه “حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية”. وقد أورد عدة مذاهب في كتابه “تهذيب الأخلاق” مثل رأي “جالينوس” و”الرُّواقيِّين”. لكنَّ الباحث أشار إلى أنَّه استقرَّ على رأي “أرسطو”. في أنَّ كلَّ خُلُق قابل للتغيير؛ ولهذا كانت الحاجة إلى الشرائع.
2- النفس: لم يخرج عن رأي اليونان. من أنَّها ليست جسمًا ولا جُزءًا منه ولا عَرَضًا له. وللنَّفس عنده ثلاثُ قوًى؛ واحدة للفكر وثانية للغضب والشجاعة من الأفعال وثالثة للشهوة. وكمال النفس بفضيلتها (العلوم والمعارف) وعدم الإذعان لرغبات الجسد.
3- الفضيلة: ذهب إلى مذهب سقراط “الفضيلة المعرفة”. وللنَّفس عنده ثلاثُ فضائل (الحكمة، العفَّة، الشجاعة)، وكمالها وانسجامها يؤدي إلى (العدالة) وهي كلّ الفضيلة. وقد فرَّق بين هذه الفضائل الخُلُقيَّة والفضيلة الفلسفيَّة (العلم والمعرفة). وراح الباحث يستقصي مذهبه حتى أكد أنَّه يتبع مذهب سقراط وأفلاطون في الفضيلة.
4- السعادة: رأى الباحث أنَّ مسكويه اتَّبع اليونان في رفضهم أنْ تكون اللَّذات هي الخير الأعلى. بل السعادة تكون بتحصيل الحِكمة النظريَّة والعمليَّة (الفلسفيَّة والأخلاقيَّة) وبهما معًا تحصل السعادة.
5- نزعته الاجتماعيَّة: يحذر الباحث. من الظنِّ بأنَّ مسكويه مُنطوٍ. بل يرى الاجتماع والانصهار بين الناس ضرورةً. وهذا سرُّ تعدُّد قوى الإنسان للتكامل وقد جاء به الشرع في الاجتماع للصلاة والحج.
6-نزعته العمليَّة: مسكويه دلَّ على الخطوات العمليَّة في الحياة؛ ومن ذلك اختيار الصديق ودَور القُدوة. فمسكويه لمْ يكُنْ فيلسوفًا نظريًّا مَحضًا.
7- نزعته التوفيقيَّة: أنَّ مسكويه يختار بين المذاهب، ويحاول التوفيق والمزج؛ فيأخذ من أرسطو وأفلاطون ويمزج الآراء بالشرع وتعاليمه.
8- مسكويه والثقافات القديمة: أعاد الباحث فيها كلّ المسائل السابقة ليخرج منها بقوله: “ومهما يكن فإنه صار واضحًا بعدما تقدَّم أنَّ فيلسوفنا لمْ يجئنا في الفضيلة والسعادة بجديد لمْ يأخذه عن فلاسفة الإغريق … اللَّهم إلا زيادة بسط في تعريف الفضائل … وطبع البحث بطابع الإسلام”.
المقالة الرابعة
الغزاليّ
*عصره وترجمته:
تحدث الباحث عن عصر الغزالي. وغَلَبَة السَّلاجقة عليه . ونُصرة مذهب أهل السُّنة. وصراع أهل السنة مع مذاهب الشيعة وخاصة الباطنية، ووقوف الغزاليّ أمام غلوهم.
ولد الغزاليّ من أسرة فارسيَّة بـ”طُوس” (450هـ). وكان أبوه غزّالا للصُّوف. لازَمَ إمام الحرمَيْن في نيسابور، وبرع في الفلسفة والمنطق والمذهب الشافعيّ. وتولى تدريس “المدرسة النظاميَّة”. وذهب إلى بغداد ودخل الشام. في الحج وأقام بها يعيش تجربته الصوفيَّة. وألَّف فيها كتاب “الإحياء”. وتنقَّل في البلاد إلى أنْ عاد إلى “طوس”، واتخذ مدرسة للفقهاء، وخاناقاه للصوفية. وتوفي في (505هـ).
*آراؤه:
1-النفس:
هي عنده “الكمال الأوَّل لجسم طبيعيّ آليّ من جهة ما يفعل الأفاعيل بالاختيار العقليّ والاستنباط بالرأي، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية”. وأنَّها جَوهر لا عرض. وللنفس عنده قوَّتان؛ إحداهما (القوة العاملة) وهي قوة الأعمال الإراديَّة التي منها الحَسَن ومنها القبيح، والأخرى (القوة العالمة) أو النظريَّة وهذه لها مراتب ودرجات. الغزاليّ يرى النفس صالحة للخير وللشر، حسب التربية الطيبة وهي للخير أقرب.
2- الضمير:
ولم يرُدْ ذِكر الضمير عند الغزاليّ، لكن من الممكن إدراجه مع (القلب والروح والنفس والعقل) وهي الطائفة التي ذكرها الغزاليّ مع شيء من التجوُّز. والغزالي يرفض وضع الضمير (قوى النفس) مصدر الحسن والقبح. فالشرع وحده والعقل إلى جانبه؛ فالعقل كالأسّ والشرع كالبناء. وقد جعل الغزاليّ الرِّضا عن العمل من أمارات خيريَّتِهِ. ويجب على الإنسان أنْ يراعي أعماله ويحاسب نفسه. وأنهى الباحث جولته بقوله: “هكذا عالج الغزالي مسألة الضمير معالجة عرضيَّة .. جاءت ناقصة”.
3- الخلق:
“هيئة في النفس راسخة عنها . تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ولا رَويَّة. فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعًا سُمِّيتْ تلك الهيئة خُلُقًا حَسَنًا. وإنْ كان الصادر عنها الأفعال القبيحة. سُمِّيتْ الهيئة التي هي المصدر خُلُقًا سيِّئًا”. والأخلاق عنده قابلة للتغيير بمُجاهدة النفس. لكن تعوقها عوائق منها سوء الطبائع، واستحكام الشهوات وضعف التربية. وتتغيَّر الأخلاق كالأمراض بمواجهتها بالضد. فالبخل يُواجه بالسخاء. ويكون هذا في بيئة صالحة مناسبة.
4- الفضيلة:
“حالة كمال النفس تنالها إذا اعتدلتْ قواها”. وللنفس ثلاث قوى وبهذا تكون الفضائل أربعة تأتي من انسجامها وهي الحكمة والعفَّة والشجاعة والعدالة. والفضيلة وسط بين رذيلتَيْن؛ فالحِكمة بين (الخب والبله) والعفَّة (الشره والخمود) والشجاعة (التهور والجبن) والعدالة هي جملة الفضائل وليست فضيلة وضدها الجور. والوسط عنده وسط متغير فهو ليس ثابتا. وقد شرح الباحث الفضائل بكلمات.
5- السعادة:
قرَّر الباحث منهجًا أنَّ دراسة السعادة عند أيّ باحث تكون بدراسة تعريفها عنده، ودراسة الطرق المؤدية إليها. وهي عند الغزالي كالآتي:
هي عنده “الخير الأعلى”. وهي أن تنتقش نفسُهُ بحقائق الأمور الإلهيَّة وتتحد بها. وتصير النفس عالمًا عقليًّا مُرتسمًا فيه. صورة العالَم كله ونظامه. فهي ليست في اللَّذة التي يصبو إليها الجهال. لكن تكتمل بتملك الخيرات الأربع؛ وهي: خيرات النفس العلم والحكمة والعفَّة والشجاعة والعدالة. وخيرات البدن الصحة والقوة والجمال وطول العمر. والخيرات الخارجيَّة المال والأهل والعزّ وكرم الأرومة. والخيرات التوفيقيَّة هداية الله ورشده وتسديده وتأييده. ولاحظ الباحث أنَّ. الغزاليّ أُغرِمَ بالرقم أربعة فجعله في كل خير.
يرى الغزاليّ طريق الوصول إلى السعادة عملاً. ومُجاهدةً بمَحو الصفات المذمومة والإقبال على الله وهو منهج. الصوفيَّة، وكذلك يراه علمًا؛ وليس يقصد علم الفلاسفة لكنَّه العلم بالشريعة. ولهذا العلم جانبان؛ نظريّ وهو العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، وعمليّ وهو علم النفس وعلم سياسة المنزل وعلم السياسة العامة وأهمها علم النفس.
ولم يرجح الغزاليّ أيًّا من الطريقَيْنِ (التصوف أم الفلسفة) بل جعل الأمر على حسب قدرة الواصل؛ فللخاصة فكرهم وللعامة فكرهم. أما هو فقد اختار طريق السلوك وهو التصوف. ويعلق الباحث أنَّ تصوف الغزاليّ لا يقرب للتصوف الذي يراه الباحث في أيامه هو بهؤلاء الضالين المُدَّعين.
6-نزعته الزُّهديَّة:
الزُّهد عنده “أنْ تنزويَ عن الدنيا طوعًا مع القدرة عليها”. والطوع يُميِّز الزُّهاد من المُدَّعين. وللزُّهد الحقيقيّ علامات: ألا ييأس الزاهد على فائت ولا يفرح بآت، وأن يستوي عنده المدح والذم. ويُدلِّل على الزُّهد من القرآن. “إنَّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيُّهم أحسن عملاً” وبالحديث والآثار. ويمدح الفقر والجوع ويراه أفضل من الغنى.
وللزُّهد عنده درجات وأقسام لكلٍّ فضيلتها وناسها. والبواعث على الزهد ثلاث درجات؛ أولها “زهد الخائفين” من النار، وثانيها “زهد الراغبين” في الجنة، وزهد “المُترفِّعِينَ” عن النظر لغير الحق. ووصف الغزاليّ الزُّهد في المأكل (أعلى الدرجات الاقتصار على دفع الجوع في الحال، وأدناها الادخار لعام بعدها لا زهد) والملبس والمسكن. وهذا في نظر الباحث يؤدي غالبًا إلى الجوع.
7- نزعته العمليَّة:
ظاهرة جدًّا عند الغزاليّ؛ فقد قرَّرَ أنَّ الأخلاق تتغيَّر بيُسر أو بعُسر. وبيَّنَ طريق المجاهدة، ورسم الطريق للصبيان والناشئة، وبيَّنَ آفات اللسان؛ ومنها الكذب وبين حالات جوازه.
8- المَعين الذي استقى منه الغزاليّ:
رأى الباحث أنَّ الغزاليّ أخذ عن اليونان والفارابيّ وابن سينا ومسكويه والإنجيل في الزُّهد. وراح يتتبع ذلك في الموضوعات السابقة مثل أخذ الغزاليّ تعريف “ابن سينا” للنفس. ولاحَظَ الباحث أنَّه (سطا) على “ابن سينا” من دون ذِكر. وقد شكَّكَ الباحث في نسبة كتاب “معارج القدس” للغزاليّ لأنَّه يحوي الكثير من النصوص المخالفة لفكره.
وعاد الباحث إلى إلحاق التأثر بالمسيحيَّة بلا أيّ دليل إلا مجرد التشابه بين كلام الغزالي في الزُّهد مع الإنجيل. ووُرُود. بعض آيات الإنجيل في كتب الغزاليّ. مع أنَّه دلَّل تصرفاته بالآيات والأحاديث!
9- الغزاليّ وفكرة الصالح العامّ: يستنتج الباحث أنَّ الغزاليّ لم يكُنْ يعنِيهِ الصالح العامّ كما يعنيه الصالح العامّ للمتصوفين. وأنَّ مذهبه ليس مَذهبًا يقوم على الاجتماع وتسعد به الأمة. وأنَّه جعل الغاية من الأخلاق هي السَّعادة الخاصَّة لا العامَّة. فكان مذهبه فرديًّا لا اجتماعيًّا. واستدلَّ على ذلك بإغراق الغزاليّ في الزُّهد الشخصيّ في المَأكَل والمَلبَس وعدِّه الفقر والجوع والخمول من الفضائل.
المقالة الخامسة: “ابن عربيّ”
*ترجمته: رجع الباحث فيها إلى كتاب “نفح الطِّيْب” للمقَّريّ. هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي المُلقَّب. “مُحيي الدين” المعروف بابن عربيّ. ولد بمُرسية بالأندلس (560هـ). تحصَّل العلم حتى علا نجمه. رحل إلى المشرق. وتوفي بالشام عام (638هـ). له علوم وَهْبيَّة كثيرة. من مؤلفاته: فُصُوص الحِكَم والفُتُوحات المَكيَّة وهما المراجعان الأساسان للباحث. وقد أثبت الباحث عدم صحة نسبة كتابَيْ (تأويلات القرآن ورسالة تهذيب الأخلاق) لابن عربيّ عن طريق المقابلة وتضادها مع المؤرخ في الكتب. وقد تأثر ابن عربيّ بسابقيه من المتصوفة في المشرق والأندلس.
*فلسفته النظريَّة: أورد الباحث كلامًا كثيرًا لا دخول له مُطلقًا في البحث. ولخَّصَه أنَّ ابن عربيّ يؤمن بمذهب “وحدة الوجود”. وأركان الوجود عنده أربعة: الله والحقيقة المُحمديَّة والنفس الكُليَّة والجسم الكُليّ. وراح الباحث يوضح هذه. الأفكار، وأغرق في الغموض لشرحه أشياء غامضة ومُعقَّدة.
وفرّق بين “وحدة الوجود” وتعني ألَّا وجود لغير الله والجميع صوره، وبين “الحلول” فكرة اثنَيْنِيَّة تعني أنَّ الإله يحلّ بالمخلوق، وبين “الاتحاد” وتعني أنَّ العبد هو الذي يتحد مع الإله لا الإله هو الذي يحلّ بالمخلوق.
وتأثَّر ابن عربي بفكرة الإنسان الكامل. وهو الكون الجامع والعالم الصغير ورُوح سائر الكائنات وعِلّتها! .. ودلَّلَ ابن عربيّ عليه بحديث رآه صحيحًا؛ وهو: (خلق الله آدم على صورته)، وقرنه بالحقيقة المُحمديَّة التي تعني أنَّ المخلوقات خلقت من محمد -صلى الله عليه وسلم- مِمَّا راقَ لجَمْهَرة المسلمين.
*الأخلاق عنده:
اعتمد فيه على كُتُب ابن عربيّ ودراسات المُستشرقين عنه. وقد رأى ابن عربيّ “النفس” أنَّها ما يعنيه الواحد بقوله أنا. وفرَّقَ بينها وبين الجسم. ورأى أنَّ الأخلاق كلَّها “نُعُوت إلهيَّة وكلّها جِبليَّة”. ويرى أنَّ معرفة الخير والشرّ يُرجَعُ فيها إلى العُرف والشَّرع. ومع ذلك يقول إنَّ العلم (الحواس والعقل) غير مَوثوق به، والعلم ما كان من عند الله. ويلاحظ الباحث أنَّ القول بمذهب “وحدة الوجود” وحده قادرٌ تمامًا على هدم الأخلاق أصلاً، فضلاً عن بقيَّة الأفكار.
*السعادة والحب والاتحاد عنده:
السعادة عنده في العلم التامّ الذي يجيء عن طريق المُكاشفة. ومنه يتبيَّن ذَوقًا أنَّ لا موجود إلا الله. وطريق الوصول. إلى هذا بعد المُجاهدة هو الحُبّ الذي يُؤدِّيْ إلى الفناء. وللحب لوازمُ وآثارٌ يُعرَف بها. والحب مَقام إلهيّ، وصف الله به نفسه. ولهذا المقام أربعة ألقاب: الهوى والحُبّ والعشق والودّ. والحب ثلاثة أضرُب: إلهيّ ورُوحانيّ وطبيعيّ. ثمَّ راحَ الباحثُ يأتِيْ بأدلَّة ابن عربيّ المُؤوَّلة على الوجه الذي يريده ابن عربيّ وهي صفة دائمة له.
*تأثُّره بغيره:
أورد تأثُّره بالفلاسفة والمُتصوِّفة الإغريق والأفلاطونيَّة. المُحدَثَة والحلاج وهو قريب منه جدًّا مُقتبِس لأشعاره.
*رأي الباحث في ابن عربيّ:
تناوله من جانبَيْنِ الدينيّ والأخلاقيّ وهُما:
أورَدَ تكفير “ابن تيميَّة” له مُتحرِّجًا من التكفير بالعين. لكنَّه اتفَقَ مع “ابن تيميَّة” في حظّ ابن عربيّ من الدِّين؛ لأنَّ “وحدة الوجود” فكرةٌ كُفريَّة. أما من الجانب الأخلاقيّ؛ فمذهب “وحدة الوجود” قد يقضي على أصول الأخلاق. وإعطاء من وصل إلى درجة الحُبّ (المَحبوب) الحقّ في فعل كلّ الأفعال يهدم المسئوليَّة الأخلاقيَّة من الأساس. وكذلك اعتباره الأخلاق جِبليَّة وأنَّ الغاية من الأخلاق عنده السعادة الشخصيَّة فقط كلُّها تأتي على صَرح الأخلاق من الأساس.
الخاتمة
يخلُصُ الباحث إلى شدَّة تأثُّر الفلاسفةِ المُسلمِينَ بالإغريق وغير الإغريق. وقد رأى أنَّ هذا التأثر لا يعيب الفلاسفة المسلمين. وقال إنَّ الماورديّ في كتابه “أدب الدنيا والدين” قد عبَّر عن الوجهة الإسلاميَّة الحقيقة في بيان الأخلاق الإسلاميَّة. هذا ولا يمكن إنكار ما قدَّمَه البحث من تتبع واستقصاء. ومحاولة للكشف عن حقائق وموضوعات جديدة مُكابدًا فيها الباحث عناء الوصول إلى الرأي من مصدره.