سبعينية الرفاعي – قراءات في مشروع تجديد الفكر الديني عند عبدالجبار الرفاعي.
*د. رائد جبار كاظم[1]
ما يميز عبد الجبّار الرفاعي عن غيره من المثقفين والباحثين والمفكرين انه يؤمن بتطور وتقدم العقل والوعي وارتقائه في السلّم المعرفي والاجتماعي والثقافي، هذا من جانب ومن جانب أخر انه يؤمن بنسبية المعرفة وانها قائمة على الممارسة والخطأ، فهو يؤمن بأن الحقيقة واحدة إلا أن الطرق إليها طالما أخطأتها، لذلك تكون المعرفة نسبية. وهو يقلب أفكاره ويمحصها ذات اليمين وذات الشمال، ويعترف دائماً في كتاباته ولقائاته بخطأه وتغيرات فكره، وما توصل اليه من أفكار ونتائج رهن ظروفه وأسبابه التاريخية والنفسية والاجتماعية والزمكانية، وهذه هي محركات التاريخ والمجتمع والانسان في كل مكان، ولا يمكن التجرد والانفصال عن تلك المحركات، وعن تلك الثلاثية التي تهيمن بعضها على البعض الآخر. لذلك نجد في فكر الرفاعي ثلاثيات وجدليات مستمرة لا تهدأ أبداً، فهو مفكر (نيتروسوفي) يقف على التخوم، ويقدًر قيمة الاشياء ويغوص في جوهرها، ويحمل من القلق الوجودي الشيء الكثير، بحثاً عن عوالم جديدة تدفعه لمعرفة قيمة الحياة والوجود والمعرفة، وهذا ما يذكرنا بالفلسفة الوجودية الدينية عند بول تيليش (1886 ـ 1965م)، الذي حاول بناء فلسفة تجمع ما بين الديني والدنيوي والوقوف من المشكلات النفسية والاجتماعية والحضارية موقفاً نقدياً معاصراً ينسجم ومتغيرات العصر، وفق نظرة تأويلية للدين وللكتاب المقدس، تنسجم وحاجة الانسان الى دين روحي أخلاقي إنساني وجودي يعالج مشكلاته بحلول واقعية معاصرة، وتهدف فلسفة تيليش الأنطولوجية الى هزّ وزعزعة أساسيات التراث المعرفي والديني الشائع والمتوارث من الآباء دون نقد أو تمحيص، وبناء لاهوت جديد يحرر الانسان ويكرمه في آن واحد، وهو ما عمل عليه الرفاعي في فكره أيضاً.
يذكرنا الرفاعي أيضاً بالتفكير والفلسفة النيتروسوفية، (Neutrosophic philosophy)، وهي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، والنيوتروسوفيا (Neutrosophy) كلمة مؤلفة من مقطعين Neutro الأول بمعنى محايد، والثاني Sophia بمعنى حكمة، ومن ثم اصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد، بالإضافة إلى تفاعلاته بالأطياف التصورية المختلفة. وهي فلسفة جديدة تم طرحها من قبل فلورنتن سمايرنديكي (Florentin Smarandache)، العالم والمفكر والفيلسوف الروماني الامريكي (1954ـ ) وتتبنى هذه الفلسفة المواقف المحايدة دائماً، وترفض الثنائيات، وتؤمن بالابعاد المتعددة والمتنوعة للافكار والآراء والمواقف وقضايا العلم والفكر والفلسفة والحياة والمجتمع، والاختلاف في الاختلاف، ليعطي لنا رأياً جديداً، قد لا يكون موافقاً ولا رافضاً وانما رأياً ثالثاً ورابعاً وخامساً، وهي ايضاً كما يعبر عنها مؤسسها بأنها فلسفة في الفلسفة وفكر في الفكر، يحاكم جميع الآراء والأفكار المطروحة، أبيضها وأسودها، وكذلك رماديها، ليقدم رؤية جديدة، وأحتمالاً آخراً يضاف الى سلسلة الحقائق، ويوسّع من الحقيقة نفسها، ولا يقرنها ولا يحصرها بحدين فقط، بين حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح، وصادق وكاذب، بل يوسّع كل الدوائر ويبحث حتى في المستحيلات، فلا شيء يقف أمامه، ولا يوجد مطلق في الفلسفة النيتروسوفية، حتى المطلق نفسه، فكل شيء يخضع لمنطق المعالجة والاحتمال والتعدد، فهي فلسفة ومنهج وطريقة جديدة في التفكير تضاف الى المناهج والفلسفات المتعددة.
الرفاعي لا يخلو من تنويعات في فكره وتغييرات مستمرة، وهذا خاضع لقراءته المستمرة وتجاربه الثرية، وسعة إطلاعه في مجالات العلوم المختلفة وتوظيف ذلك في رؤاه الفكرية، فهو يفلسف الأشياء ويصوّفها في آن واحد، تجده يخضع الاشياء لثقافته الخاصة، ذات الأبعاد المختلفة (قرآصوفي فلسفي). ولعل قائل يقول أن هذا ليس بغريب وعجيب في الثقافة الاسلامية، ولم نعدم من وجود باحثين ومفكرين وفلاسفة وفقهاء سبقوا الرفاعي في طروحاته ومنهجه وطريقته تلك، وهذا ما وجدناه مع أبي حامد الغزالي وفخر الدين الرازي وصدر الدين الشيرازي وآخرين.
كنت قد أعددت هذه الورقة قبل أن أقرأ شهادة المفكر العربي حسن حنفي بحق الرفاعي ومجلته (قضايا اسلامية معاصرة)، التي أعاد الرفاعي نشرها مجدداً في الصحف والمواقع الالكترونية في شهر تموز 2024، ووجدت في هذه الشهادة الشيء الكثير وأضافت لي الكثير، فهي تحمل عنوان (عبد الجبار الرفاعي، الطريق الثالث) وهو خير دليل على فكر وطريق الرفاعي الذي لخصه حنفي في تلك الشهادة المهمة وما تحمله من خط جديد ومفيد مختلف تماماً عن الطرق الفكرية الأخرى ذات البعد الواحد الذي يدعو له بعض المثقفين والمفكرين، ولكن الرفاعي ـ من وجهة نظر حنفي ـ أرتأى طريقاً ثالثاً، ليس طريقاً توفيقياً جامعاً بين الأثنين، وإنما طريق مختلف ينحو منحى ما يسمى بـ (اليسار الاسلامي)، وبعيداً عن هذا التوصيف الذي يراه حنفي والذي يدعو له في فكره ودراساته، والذي لا يحبذه الرفاعي مطلقاً، ولا يرغب أن يوصف به، لأنه يؤمن أنه مسلم وكفى، إلا أنني وجدت في الرفاعي إنه يسير بثلاثيات دائمة في فكره وديالكتيك مستمر، ومراحل ثقافية ومعرفية متنوعة مرت به، فهو في كل مرحلة عمرية يمر بها يتمثل نمطاً معرفياً ينجذب له، في الفقه وعلم الكلام والعرفان والفلسفة، وهناك شواهد ودلائل على تلك المراحل، ومؤلفاته وكتاباته ومحاضراته خير دليل على ذلك. ولا أحسب أن في ذلك تناقضاً أو أزدواجية، كما يحلو للبعض أن يسميه، وإنما هو النضج المعرفي والقراءة المستمرة والوعي النقدي الذي يضاف للرفاعي من كل تجربة يمر بها في حياته وفكره، وهذا ما نلمسه عند الكثير من الفلاسفة والفقهاء والمفكرين في مراحل حياتهم، ونشهد تحولاتهم الفكرية والمعرفية في سلوكهم وفكرهم وتجاربهم، وهو حالة صحية ودليل عافية فكرية لدى المثقف والمفكر والعالم، ما لم تفسده المصلحة الشخصية وضرورات السلطة ومنطقها المتغير.
أتذكر رأي لأحد الفلاسفة، وأظنه لأبن سينا، مفاده: إن الفلاسفة والمفكرين كلما تقدم بهم العمر إتسعت رؤاهم ونضجت ذاكرتهم وثقافتهم، على العكس من البشر العاديين، عامة الناس، الذين تضعف قواهم ورؤاهم وذاكرتهم بتقدم العمر. وهذا الرأي السينوي لعله يصيب مع جماعة ويخيب مع جماعة آخرين، وقد يضيع ويضل بعض الفقهاء والعلماء ويهدي البعض الآخر بحسب توجهات كل منهم، ولكن الذي يعنينا في هذا المجال، مع الرفاعي، إنه قد أرتقى سلماً معرفياً وسلوكاً عرفانياً ساهم مساهمة كبيرة في سعة أفقه وتنور رؤاه، بطريق جديد خطه بنفسه لنفسه يمثل قناعته، ولم يجبر الآخرين على السير عليه، ولكنه سجل تجاربه تلك ودونها في مؤلفاته وكتاباته، وهي تمثل بالنسبة له خطاً بيانياً صاعداً لا هابطاً، كما يحلو للبعض وصفه، وتلك أحسبها شجاعة من الرفاعي في خوض ذلك الغمار الفكري والمعرفي والسياحة الروحية الدائمة، ويخرج بعدها منتصراً قانعاً بما ربح وما خسر من تلك التجارب، المهم أنه جربها وادرك مضمونها وذاق طعمها ليرتقي بعد ذلك سلماً أو طريقاً جديداً عاينه وكُشف له من تلك التجارب والمسالك، وتلك هي سمات العالم الجاد الذي لم يقف عند حد معين وطريق ينتهي له يقول ها أنا وصلت الى تلك الحقيقة فأتبعوني يرحمكم الله، بل إن للرفاعي مسالك ومدارك، وصولات وجولات، ومقامات وأحوال لا تهدأ أبداً، ولا يغلق الباب بعده بل يبقيه مفتوحاً على مصراعيه على حقيقة عرضها السموات والأرض، ومن ألطف الأمور في الرفاعي الشيخ والمجتهد والمعلم والأستاذ، إنه يبقى مريداً الى نهاية العمر، وقد يتبع شخصاً أو تلميذاً أو عارفاً أو إنساناً أو صديقاً، مهما كان عمره ولونه ومعتقده، نحو المعرفة والحقيقة والانسانية، طالما كان الرفاعي يحمل أخلاقاً في يد وفانوساً في يد أخرى، فهو ديوجيني لا يمل ولا يكل عن البحث والقراءة والكتابة وحب المعرفة، ما دام فيه قلب ينبض، وعين تقرأ ويد تكتب.
قرأ الرفاعي تجارب وأفكار فلسفية وعرفانية كثيرة من مختلف الهويات والتوجهات الفكرية، وشخص مثله متفاعل أشد التفاعل مع الأفكار ذات البعد الروحي والوجداني والميتافيزيقي والديني، ولذلك كانت أفكاره تحمل هويته الفكرية، أنها هوية بـ (أربعين وجه) إستعارة من المفكر الأيراني داريوش شايغان (1935ـ 2018م)، لكنها هوية ليست متشظية ضائعة، وإنما هوية متقبلة للآخر بمختلف تنوعاتها، وقد يحلو للبعض وصف هذا النوع بـ (التلون) والتكيف مع الأفكار بإختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن الرفاعي ناقد للأفكار والفلسفات، وأول ما ينتقد من الأفكار أفكاره الشخصية التي تبناها في حياته الفكرية والثقافية، والتي رأى تناقض بعضها وخطأها وأضطرابها بعد سنوات طويلة من القراءة والكتابة والتفكير والتراكم العلمي والمعرفي، وهي حالة صحية يمر بها كثير من المفكرين بعد تقدم وعيهم ونضجهم الفكري وكشفهم العلمي الذي يتعرضون له في مسيرتهم المعرفية. لا بأس بهذا التحول والنضوج المعرفي إن كان إيجابياً وكاشفاً لآفاق علمية جديدة، لكن الخشية كل الخشية على الفكر والمفكر من أن يكون متعدد المناهج والطرق والمسالك، وفي كل مرة يرى حقيقة غير التي رآها سابقاً وبالتالي تتعدد الحقائق بتعدد التجارب الذاتية فتضيع عنده حقائق الامور والعلوم هذا من جانب، ومن جانب آخر نخشى من عملية التلفيق الفكري والثقافي، فيكون المفكر فقيهاً ومتكلماً ومتصوفاً وعارفاً ولغوياً وفيلسوفاً …ألخ من حقول العلم والمعرفة، وهذا ما حذر منه المفكر العربي محمد عابد الجابري (1935 ـ 2010م) في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي)، من وجود مفكرين ومثقفين يعملون على تلفيق الطرق والمناهج والعلوم، وهو ما أسماه بـ (التداخل التلفيقي)، فالجابري لا يخشى من البياني لبيانه، ولا من العرفاني لعرفانه، ولا من البرهاني لبرهانه، فكل هذه طرق وقطاعات معرفية مستقلة التكوين والتأسيس، ولكنه يخشى من التداخل الذي يحدثه البعض في الطرق والمناهج والقطاعات المعرفية وتفكيك هذه الطرق في طريق واحدة، فيكون البياني عرفاني، والعرفاني بياني، والبياني والعرفاني برهاني، والبرهاني بياني وعرفاني، فنجد الفقيه متكلماً، والمتكلم متصوفاً، والمتصوف فيلسوفاً، والفيلسوف متكلماً ومتصوفاً، …الخ من التوصيفات والتصنيفات، فتضيع عملية التخصص في حقل العلوم والمعارف، وهذا (التداخل التلفيقي) في رأي الجابري هو ما فكك الثقافة العربية الاسلامية وأضاع هيبتها وجعلها في مرحلة أزمة وأنحطاط لم نخرج منها أبداً، منذ لحظة الغزالي الى يومنا هذا، على العكس من لحظة التدوين في الثقافة العربية الاسلامية التي أسست لطرق ومناهج وحقول معرفية علمية مستقلة البناء والبنية والتكوين، أسست لهيأة وهيبة مستقلة عرفت بأسم الحضارة العربية الاسلامية، لها وجودها وحضورها بين الثقافات والحضارات العالمية العالمة.
كنت في سنوات سابقة أنتقد كل من يمر بسلسلة من التحولات الفكرية والثقافية في حياته، وأعده نوعاً من التناقض والأزدواجية الشخصية والتلون الفكري، لكنني بعد ذلك أدركت إنه قد يقع البعض في ذلك الفخ، وقد يلعب البعض من المثقفين على الحبال، ولكن الأمر لا يسري على الجميع، فهناك تحولات فكرية لها ظروفها وسياقها التاريخي والنفسي والاجتماعي والفكري، ومراجعة الأفكار وتمحيصها أمر لا بد منه لكل مثقف وباحث ومفكر واعٍ ولا ينغلق على إطار فكري محدد يموت في سبيله. الأفكار مثل الأزياء والملابس والموظة، تناسب البعض ولا تناسب البعض الآخر، كما أن لها بيئة وبنية ونسق وسياق خاص لكل مرحلة ولكل شخص، وهي شبيهة بما طرحه علي الوردي في الطبيعة البشرية وما يخص الأطر الفكرية التي تحيط بالإنسان (الإطار النفسي والإطار الإجتماعي والإطار الحضاري)، وتختلف طبيعة هذه الأطر من إنسان الى آخر، ومن مجتمع الى آخر، وتتعرض هذه الأطر الى سلسلة من الصعوط والهبوط والإنفتاح والانغلاق، حسب مستوى إدراك ووعي ونضوج الشخص وتطوره الثقافي والمعرفي، وأضيف الى ذلك إن الأمر لا يخلو من حالة الكشف والتجربة الصوفية، فلكل إنسان تجربته الفكرية والحياتية التي يمر بها، ولهذه التجارب مقامات وأحوال فكرية كما هي عند الصوفي والعارف. هذه ليست من سمات التناقض والازدواجية بل من سمات الوعي والثقافة والنضوج، وهذا ما مرّ به الرفاعي أيضاً في حياته الفكرية والروحية، ولم يغلق الباب عند حد ما وصل اليه، بل هو سالك وعارف ومثقف منفتح على أوجه الحقيقة ومصادرها المختلفة. لذلك نجد تنوع وتعدد منابع الرفاعي الثقافية والفكرية والفلسفية، من علوم الدين في الفقه وعلم كلام والتصوف والفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، فضلاً عن إطلاعه على علم أديان ومناهج فكرية وفلسفية جديدة غربية وشرقية وعربية وإسلامية، شكلت وكونت شخصية الرفاعي الثقافية والعلمية وهويته الفكرية وتنوع طروحاته المعرفية، وهو الخبير والعارف والأستاذ والمجتهد في تلك المسالك والمعارف لسنين طوال. الرفاعي الآن في السبعين من عمره، وما يدرينا لعل سنوات عمره القادمة ستشرق لنا أفكاراً جديدة وفقاً لما يحمله من أفكار وتجارب وكشف معرفي جديد يظهر له، لكنه مهما أختلفت تلك التجارب والكشف المعرفي لدى الرفاعي وإختلافها وفقاً لمرحلته العمرية التي يمر بها، يبقى الرفاعي بهوية اخلاقية واحدة متفق عليها بين الجميع، فهو إنسان يؤمن بالآخر ومحب للتسامح والسلام ومتعايش مع الآخرين ومتصالح مع ذاته، ومن دعاة النزعة الإنسانية والتوجه الديني الرحب بمختلف تنوعاته، وهو ما نشهده في سلوكه وخلقه وفكره ومؤلفاته ومعايشته للناس والمجتمع. الرفاعي إنسانٌ ومفكرٌ نيتروسوفيٌ إنسانيٌ إنسانيٌ جداً.
——–
د. رائد جبار كاظم
استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية / بغداد ـ العراق
20/7/ 2024
[1] أستاذ الفلسفة بكلية الآداب في الجامعة المستنصرية ببغداد.
*المصدر: التنويري.