على سبيل التقديم:
إنَّ البحث في علاقة الثقافة بالتنمية الشاملة بشكل عام والتنمية المحلية بشكل خاص وحسب أغلب الباحثين الواقعيين، يعني التنقيب عن الفسيفساء وعن ذلك الكُل المركَّب من العادات، والتقالىد، والقيم، والعقائد، والاعراف، والإرث المادي واللامادي، والمعرفي والتربوي، لمجتمع ما في محيط جغرافي معين، ودراسة مدى استجابة ذلك النسق الاجتماعي والثقافي، لخطط ومشاريع وبرامج التنمية، ممَّا يؤدِّي إلى إثارة الكثير من التساؤلات، عن ماهية هذه العلاقة؟ وكيف يكون للثقافة دور في نجاح أو فشل برامج التنمية؟ وما طبيعة ذلك التاثير…؟ وكيف نفهم مدى استجابة بعض النظم الاجتماعية وتفاعلها الثقافية، واستيعابها لنظريات التنمية الحديثة وتحويلها إلى برامج عمل ومشاريع أدت إلى تغيرات بنيوية وهيكلية في النسق الاجتماعي؟ وعجز بعض المجتمعات بالرغم من أنَّ حظّها من الموارد الطبيعية والبشرية أوفر من تلك التي سبقت؟ ما هو سبب تفاوت بعض المجتمعات في القدرة على النهوض وعجز مجتمعات أخرى حتى في الإيفاء بالحاجات الأساسيَّة للأفراد بالرغم من استخدام استراتيجيات متطابقة في كثير من الأحيان؟ وما الذي يجعل اقتصادات جنوب غرب آسيا على سبيل المثال تنطلق تنمويا وتسجِّل معدّلات نمو هائلة تثير إعجاب العالم وفي فترة وجيزة نسبيا، بينما لم يتمكَّن الأفارقة – رغم الظروف الطبيعيَّة والبشريَّة- من الانطلاق الاقتصادي والتنموي، وما الذي يميِّز القارَّة الأفريقية وبلدانها لتتأخَّر في الوقت الذي يتقدم فيه الآخرون ؟ كيف يمكن للثقافة أن تلعب دور البوصلة في تحديد وجهات التنمية بالقارة الافريقية؟ وهل فعلا بناء الكائن البشري وتنميته ينطلق من الاعتراف الأولي لهويته وثقافته والانطلاق من الذات كذات؟ وهل الرأسمال الثقافي والرمزي اللذان تحدّثا عنهما السوسيولجي بيير بورديو هم الأصل في تحقيق باقي الرساميل بما فيها الاقتصادي؟ أسئلة وجيهة سنحاول ملامستها من خلال هذا المقال وربطها بأمثلة تنطلق من خطوط الواقع المعيش لساكنة القارة الأفريقية التي تحسّ في أغلب الحالات بأنها مخنوقة في أرضها أو في حالة شاذَّة أنها غريبة في أوطانها. ممَّا يولد لديها فكرة الهروب والهجرة إلى مناطق أخرى عن طريق الحلم بالفردوس وبالنجاة بذواتها. في الوقت الذي تعاني مختلف مؤسَّساتها بما فيها الدولة من صراعات سياسية وتناقضات بين ما هو مستورد وما تفرضه سياسات الاستعمار الذي خرج من الباب وعاد من النافذة. وكذا من طموحات وقيم المؤسَّسات التقليدية من أسر وقبائل وجمعيات للمجتمع المدني الحقيقية والممثّلة للسكان الأصليين. والتي تسعى إلى الارتباط مع الارض ومع ما يمكن غرسه في هذه الأرض.
يان : أهميَّة البعد الثقافي في ضمان التنمية الحقيقيَّة:
لقد أكَّد روني ماهو ” René Maheu” المدير السابق لليونسكو ذات مرَّة على أن التقدّم الحقيقي هو عندما يصبح العلم ثقافة، وانطلاقا من هذه القولة الشهيرة نؤكِّد نحن شباب القارة الأفريقية أن التقدَّم الحقيقي لقارتنا العظيمة هو عندما يصبح العلم ثقافة اجتماعيَّة تخدم التنمية المحلية والمستدامة وبالتالي التفكير أولا وحسب التوجّه الجديد للتنمية في إبراز ذلك الموروث الثقافي الذي تتوفَّر عليه المجتمعات الافريقية والعمل على إيجاد سبل وطرق وبرامج عمل تعمل على توظيف النسق الاجتماعي لهذا الموروث الثقافي في تنمية المنطقة.
ولهذا يبقى البحث عن التنمية لكل منطقة معيّنة في ما يتوفَّر عليه الأفراد من أفكار وعادات وقيم وتوجّهات وميولات مع ضرورة اعتماد تفسيرات علمية لهذا الرأسمال الثقافي ومحاولة التفكير في برامج تجعل الأفراد وخاصَّة الشباب ينخرطون فيها وبالتالي استثمار تلك المناعة الثقافية والتي قد ترفض كل تغيير في خلق ثورة داخلية أولا لدى هذه الفئة والاستعداد لإعادة التوازن ثقافيا واجتماعيا قصد المشاركة في اقتراح مشاريع تنموية تمكّنهم من خلق الثروة أولا واكتساب قيم جديدة تمزج بين الإرث المحلي والإرث العلمي العالمي والدولي وبالتالي التأقلم مع التجارب الجديدة والحديثة لبناء مجتمعات متقدّمة.
ولقد أكَّدت مختلف المنظّمات الدولية عبر تقاريرها وعبر أنشطتها واجتماعاتها بما فيها مؤتمرات منظمة” اليونسكو ” العديدة التي عقدت في العقدين الماضيين على أهميَّة الاعتراف بالبعد الثقافي ضمن عملية التنمية والتأكيد على الهويّات الثقافية، وفتح آفاق المشاركة في الحياة الثقافية مع دعم التعاون الثقافي الدولي، وقد اعتبر من الضروري اعتماد القيم الكونية، وفي آن واحد التعدّدية الثقافية، بحيث تهدف السياسات الثقافية إلى المحافظة على تعددية المبادرات الثقافية وحمايتها بما يدعم التفاهم والاعتبار والاحترام بين الأفراد والأوطان في مجابهة مخاطر الصراعات والتغلب عليها، وهذا ما جعل الثقافة بالمنظور الكوني الجديد في قلب عملية الوجود البشري، وعملية التنمية الإنسانية من منطلق أن الثقافة هي مجمل الخطوط المميزة روحانيا أو ماديا وفكريا وحسيا، هذه الخطوط هي التي تميز مجتمعا ما أو مجموعة اجتماعية.
ولا نجاح للتنمية إلاّ من خلال سياسة ثقافية تطال كلّ نواحي الحياة الاجتماعية السياسية، الإعلامية، والبيئية، الاقتصادية والتربوية. وربما من حسن حظ الثقافة أنها لا تخضع لعملية حسابيَّة على قواعد الربح والخسارة. وما مظاهرها المادية والمعنوية، وانفتاحها على باقي الثقافات العالمية، سوى معايير لقوتها وتسامحها وديمومة بقائها[1]. وبشكل عام فان البعد الثقافي في التنمية هو المدخل الصحيح لتحقيق أجرأة الفعل التنموي بكل بقاع العالم وخاصَّة في القارة الأفريقية، ليس لأنها تمتاز بالتعدّد الثقافي فقط بل لكون ساكنة هذه القارة منغمسين إلى حدود اليوم في العادات والثقإلىد وكذا الموروث الثقافي، مما يجعل تلك المناعة والمواجهة لكل تغيير بما لا يتأقلم مع الموروث الثقافي الذي يهيمن على الذات الافريقية. فافريقيا للافارقة أولا بمعنى لا يجوز تغيير افريقيا بدعوى التنمية بل ما يمكن تقبله هو تطوير وضمان تقدم افريقيا كما هي وليس تبديلها. وخير مثال على ذلك الذي ما زالت افريقيا تواجهه بشكل يومي هو تأثيرات البعد الديني على السياق الثقافي والتي أصبحت اليوم لها تأثير مباشر على الأفراد والجماعات بمعنى أصبحت الثقافة المحلية الأفريقية مهدّدة بالفكر الديني بشتّى أنواعه وبالتالي التخلي على بعض السيمات الثقافية والقيمية الأصلية لصالح الدين… ممَّا يولد في بعض الحالات صراعات وحروب تجعل التنمية بعيدة المنال؛ إذ تصبح السياسة هو المجال الخصب لهذا الصراع.
يقول “دوني كوش”: ” والثقافة لا تتيح للإنسان التكيّف مع بيئته فحسب، بل تتيح له إمكانيَّة تكييف هذه البيئة لحاجاته ومشروعاته، بمعنى آخر، الثقافة تجعل تغيير الطبيعة أمراً ممكناً”[2]؟… أي أن مدخل الثقافة في التنمية بعود بالنفع لا محالة إلى المجتمعات لفهم مجتمعاتهم أولا تمّ اكتشاف مواردهم وإمكانيتهم ثم كيفية تطوير هذه الرساميل الثقافية والاجتماعية والرمزية ثانيا من أجل خدمة بيئتهم التي هي مصدر ومنبع ومنبث هذه الثقافة. فالثقافة في خدمة التنمية من أجل تطوير وتعزيز دورها لخدمة المجتمع الانساني.(المفهوم الجديد للتنمية يدعو أولا إلى معرفة ما نتوفَّر عليه نحن وليس ما نحتاج إليه.)
لكن المؤسف في جل دول العالم الثالث والدول الأفريقية بالخصوص أن نجد أن الثقافة (بكل مكوناتها: الدين، اللغة والقبيلة) لا تخدم التنمية ولا يتم النظر إليها كرأسمال مهم بل يتم فقط فلكلرتها وجعلها تسويقية لأغراض سياحيَّة فقط ممَّا يجعل الكثير يعمل على البقاء بها في نفس المستوى ضمانا للمحافظة عليها كدريعة فقط، كما أنّه لا يتم في هذه الدول الربط بين الثقافة والتعليم (الدليل تجد وزاة خاصَّة بالثقافة ووزارة خاصة بالتعليم ولكل واحدة فلسفتها وتوجهها)، من أجل إعداد الرأسمال البشري وتكوينه لخدمة المجتمع بل العكس هو الذي يقع فتجد التعليم يفبرك فردا مستلبا وغير واقعي ويتمتَّع بكفايات وقيم نظرية غير واقعية تجعله يفكر في الهجرة ومغادرة وطنه … أما الثقافة فهي الفلكلور فقط والمهرجانات وبالتالي المتعة وكثرة السهرات …. فكيف لنا أن نخدم التنمية بتعليم وبثقافة حكوميَّة غير منسجمتين وغير مستحضرتين للتنمية كتوجه وكفلسفة وكسياسة؟ أليس من اللازم اليوم خلق نقاش عمومي واجتماعي حول التوجهات الكبرى للفكر المجتمعي والمتمثلة في : الدين – اللغات – ثم السياسة؟
سين : التنمية رهينة بالمشروع الثقافي والتربوي المتكاملين:
لقد أصبحت اليوم التنمية في جميع الدول بما فيها دول شمال افريقيا ودول جنوب الصحراء وغرب القرن الافريقي، الشغل الشاغل، حيث نجد على مستوى الخطابات الرسمية وكذلك على مستوى الإعلام بشتى أنواعه، فالجميع يتحدَّث عن التنمية الشاملة والمحلية والمستديمة. اصطلاحات عديدة جاءت نتيجة حمى التغيرات الدولية، ومبالغ مالية تصرف وأرقام ونسب مؤية تذكر في كل مناسبة، إلا أن في أمر الواقع نجد أن الطريق الصحيح للتنمية ما زال لم يعبَّد بعد وما زال فيه اعوجاج كبير لأنه لم يتخذ المسار الجيد … فسياسة المصالح الدولية ورابح رابح التي هي شعار أي اتفاقية دولية وبين مختلف الدول تجعلنا نشير هنا إلى أن التنمية الحقيقة بالقارة الافريقية والتي تنعت اليوم بأنها مستقبل العالم، رهينة بمشروع ثقافي وتربوي يخدم مصلحة الانسان الافريقي بالدرجة الاولى وذلك عن طريق بلورة رؤية دولية تضع في صلب استراتيجياتها التنمية البشرية بموازاة مع التنمية الاقتصادية… لأنه إذا كان الإنسان هو من فكر في التنمية ولصالحه فلا يعقل أن تكون هناك تنمية دون هذا البشر ودون تأهيله عقليا وفكريا ومهاريا. انطلاقا من مدخليين أساسيين هما: مدخل الثقافة ومدخل التربية: بالثقافة نضمن الانخراط الفعلي للإنسان الافريقي في مختلف المشاريع التنموية كيف ذلك؟
انطلاقا من الاعتراف ورأسمالة(la capitalisation ) الثقافة المحليَّة للسكان بجميع مكوناتها من اللغة والعادات والتقإلىد وكذا طرق التفكير وأساليب العيش … يمكن أن نضمن انخراط الساكنة في التنمية. فجل حاملي المشاريع إلى افريقيا ولربح الوقت لا بد من استحضار البعد السوسيولوجي والثقافي في الدراسات التقنية والدراسات الميدانية. هذا له ارتباط أولا بتفادي المقاومة الطبيعية للتغيير ثم ضمان المناعة الثقافية للسكان والشروع في التأقلم مع المحيط وخلق النموذج التنموي الخاصّ لكل بيئة دون اللجوء إلى استيراد نماذج تنموية خارجية تتعارض في بعض الحالات مع خصوصيات القارة الأفريقية. وخلال هذا الاعتراف بما هو كائن والسعي وراء دمجه بأفكار حديثة وجديدة ترتبط بالجودة وبالفعالية سيضمن لا محالة إيمان الإنسان الافريقي بما لديه من رساميل محلية وسيتعزَّز لديه الافتخار بالأرض وبحبه لوطنه ولدواره ولمنطقته. ليس لأنه أمي ومتخلّف وبدائي وعنصري أو لكونه ليس من خريجي المدارس الاوروبية أو الامريكية الحديثة، بل لكونه ابن بيئته فقط وكائن اجتماعي وهي كافية لعدم نجاح أي مشروع وإن نجح فالمسألة تبقى نسبيَّة وقد تولِّد عواقب أخرى قد تمتدّ حتى إلى القارات الأخرى وإلى البلدان المتقدِّمة في عقر دارها. والأمثلة كثيرة اليوم وهي سبب أغلب مشاكل العالم اليوم ولها ارتباط وثيق بتجاهل الثقافة المحلية وفرض الأنانية الأحادية لما يسمى بقطب الدول المتقدِّمة والصناعية. ولأن الإيمان بأحادية الفكر والتوجّه وعدم الاعتراف بالتعدّد وبالاختلاف سيجعل العالم لا محالة سيعاني من أزمات كثيرة.
أمَّا التعليم والتربية فلا يختلف اثنان لكونها ذا أهمية استراتيجيَّة لكل المجتمعات التي تنوي التألق مستقبلا وتكون في مستوى متطلبات العصر، ولأن التطوّر اليوم أعطى الأهمية للمعرفة والعلوم والتكنولوجيا و” جعل أهم ثروة يملكها أي شعب هي الثروة البشريَّة المرتبطة بالقدرة على إنماء الموارد البشرية “[3]. والتحدّي الذي تواجهه برامج التنمية في العالم الثالث وبافريقيا خاصَّة يرتبط بضرورة خلق الشروط اللازمة ” للتحكم في المعرفة التي أصبحت تشكِّل اليوم سلاحا استراتيجيا لأحكام السيطرة على الصعيد العالمي”[4]. التعليم إذن هو الكفيل بإنتاج المعرفة وتنظيم عمليات انتقالها وتطويرها . فإذا ما حاولنا تصنيف عقل الإنسان الافريقي اليوم نجد أن هناك ثلاث فئات: فئة تفكِّر بأقدامها بمعنى لا يشغلها إلا الملاعب الرياضية وكرة القدم بالخصوص، فصباح مساء تساير كل مستجد وطنيا ودوليا فتخدَّرت هذه العقول بالرياضة بشكل لا يتصور وبالأحلام الانضمام إلى إحدى الأندية الكروية وهم يحفظون شعارا وحيدا ” من لم يحصل عليها بالقلم يحصل عليها بالقدم”، وهذا لا يعني أننا لسنا رياضيين وضدّ الرياضة لكن أن يصل الأمر إلى حدّ التخدير فينقطع الفرد عن كل شؤون الحياة لينخرط فقط في ما تقدّمه الملاعب من نتائج، هو الغريب والذي لا يقبله العقل .أمَّا الفئة الثانية فهي التي تفكِّر ببطونها حيث شغلها الشاغل هي ملئ بطونها بما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات فتجدها تخطط للحفلات ولزيارات المطاعم والمقاهي والملاهي وللسياحة إلى أن اصبحت هذه الدول شغلها الشاغل الاستثمار في المقاهي والفنادق والشقق والعمران… (دون الصحة والتعليم والفلاحة) ثم فئة ثالثة قليلة(نخبة) وهي التي تفكر فعلا بعقولها ويستهويها تغذيته بالعلم والمعرفة، لكنها عاجزة عن فعل أي شيء لأنها قليلة وتتّخذ موقفا حياديا يجعلها في منطقة الأمان ولا تحب منطقة الصراع. وأمام هذا التباين الكبير بين هذه الفئات حيث أن الفئة الأولى والثانية هي التي تشكّل الأغلبية فلا يمكن تنمية هذا المجتمعات بالبطون والأقدام دون فكر وعقل مدبر. هذا في الوقت الذي نجد فيه المجتمع الدولي يتميَّز بالتقدّم العلمي والتكنولوجي السريع الذي يتحكَّم في حركة المجتمعات ونموّها أكثر من الثروات المادية، كما أن مقياس تقدّم أي بلد لم يعد يبنى على أساس ما يمتلكه من مواد أولية بل على ما يمتلكه من عقول [5]. وما وقع في 20 على 20 من تفشّي وباء كورونا وعودة العداد من جديد إلى الصفر لدليل قاطع على خطأ الاستراتيجية المتّبعة في التنمية بمختلف دول العالم. فالتفكير المنطقي والصحيح لقرية العالم هو أن يكون هناك وحدة في إطار التعدّد واحترام الخصوصيات المحلية من ضمان المناعة الجماعية لهذه القرية الصغيرة في نظر البعض والذين يملكون أسرار الاستثمار العالمي من شركات متعدّدة الجنسيات ومن رجال السلطة الكبار ومن كهنة مختلف المعابد بالعالم، والمعقدة في نظر الانسان البسيط والفقير والذي هو في صراع يومي مع القوت ومع متطلبات العيش البسيط.
وبضمان نجاعة المدخلين السابقين لابد من الإشارة إلى ضرورة الربط بينهما وبالتالي جعل التربية والتعليم في خدمة الثقافة من اجل الانخراط الفعلي في التنمية للساكنة. فلا يعقل أن نجد أن الثقافة في واد والتربية والتعليم في واد آخر. اذ الفلكرة التي تتبنّاها السياسات الثقافية الرسمية في دول شمال افريقيا على سبيل المثال لا يخدم مصلحة التنمية لأنها نموذج سياحي أجنبي انتروبولوجي ينظر إلى هذا المنتوج الثقافي المحلي نظرة دونية دوره فقط هو الترويح والمتعة للأجنبي السائح القادم من الدول المتقدّمة، هذا في الوقت الذي يشكّل هذا الثرات جزءا من هوية الشعب ومن الذات الأصلية والتي تعتبره أبرز قناة للتعبير عن القيم الإنسانية السلبية والإيجابية بما فيها الحبّ والحرمان والأزمة والقلق والمعاناة وكذا الحرمان والأمل في المستقبل… لكن عندما نفكّر في ارتباط هذا الثرات على سبيل المثال بالإنتاج وبتثمينه وتطويره وتسويقه كمنتوج ثقافي إنساني له دور في التنمية المحلية والتربية والتنشئة الاجتماعية للأفراد. ويمكن تدريسه في المدرسة وفي الجامعة… فكيف يمكن إذن جعل الموروث الثقافي الإفريقي كمدخل للتنمية الشاملة؟
كراض: الموروث الثقافي الإفريقي والتنمية الشاملة:
لقد حان الوقت أن نعرف بأن الثقافة في مفهومها الأصلي هي كلمة تعود في اللغة اللاتينية إلى cultura التي تعني رعاية الحقول أو قطعان الماشية. لتظهرفي القرن الثامن عشر وتدل على جزء من الأرض المزروعة ( حول هذه النقطة وغيرها، أنظر بينيتون [ 1975]). حيث أن الإنسان بالأساس كائن ثقافي، وعملية التحول الطويلة إلى إنسان التي بدأت قبل عشرة ملايين سنة، انطوت في جوهرها على الانتقال من التكيّف الوراثي مع البيئة الطبيعية إلى التكيّف الثقافي. وعبر مسيرة ذلك التطور الذي أدى إلى نشوء الإنسان العاقل أي الإنسان الأول، تراجعت الغرائز تراجعاً كبيراً، وحلّت الثقافة تدريجياً محلها وهو التكيف الذي تمكن الإنسان من السيطرة عليه. وقد تبين أن هذا التكيّف أكثر فاعلية من التكيف الوراثي لأنه أكثر مرونة وأسهل وأسرع قابلية للانتقال . والثقافة لا تتيح للإنسان التكيف مع بيئته فحسب، بل تتيح له إمكانية تكييف هذه البيئة لحاجاته ومشروعاته، بمعنى آخر، الثقافة تجعل تغيير الطبيعة أمراً ممكناً.[6]
وبالتالي يبدو أن مفهوم الثقافة يعد أداة مناسبة لوضع حدّ للتفسيرات الطبيعية للتصرفات البشرية. وطبيعة الإنسان يمكن تفسيرها كلها من خلال الثقافة ولا عير بما في ذلك انخراطه في الحياة بشكل عام وفي التنمية بشكل خاص. والاختلافات التي تبدو شديدة الارتباط بالخصائص البيولوجية الخاصة مثل اختلاف الأجناس، على سبيل المثال، لا يمكن ملاحظتها أبداً في حد ذاتها “في الحالة الأصلية”(الطبيعية)، لأن الثقافة تستولي عليها مباشرة: التقسيم الجنسي للأدوار وللمهام في المجتمعات البشرية على سبيل المثال ينتج أساساً عن الثقافة، ولهذا نراها تتنوع من مجتمع لآخر. كما أن نظرة الانسان إلى بيئته وإلى دوره في الحياة تتحكم فيه الثقافة من حيث المبادئ والتوجيهات مما يجعلنا نفهم بأن صياغة أي نموذج تنموي في منطقة معينة يحتاج إلى فهم ماهية الثقافة في تلك المنطقة وكذا كيفية تحكم الموروث الثقافي في جميع الافراد وكذا في الجماعات. والا سيصبح تغيير الثقافة هو المفتاح الوحيد في فرض نموذج تنموي معين يتماشى مع هذه الثقافة الجديدة.
الإنسان لا يملك أي شيء طبيعي خالص. حتى الوظائف البشرية المرتبطة بالحاجات الفيزيولوجية كالجوع والنوم والرغبة الجنسية وما إلى ذلك، تمليها الثقافة: المجتمعات لا تقدم تماماً الأجوبة نفسها بالضبط، على تلك الحاجات. وفي المجالات التي تخلو من الإكراه البيولوجي تقوم الثقافة بتوجيه السلوك. لذا فإن الأمر :”كن طبيعيّاً”، وهو أمر نوجهه غالباً للأطفال في الأوساط البورجوازية على وجه الخصوص، يعني في الواقع :” كن متوافقاً مع نموذج الثقافة التي نقلت إلىك”.[7]
أما عن تغيير الموروث الثقافي ليتماشى مع النموذج التنموي المرغوب فيه وحسب الأغراض الاقتصادية أو السياسية فهو ممكن ولكن يحتاج إلى زمن طويل و عليه أن يتماشى مع تغيير يشمل جيل كامل من صغره … وهذا ما نلاحظه اليوم من مقامة للتغيير ولتقبل بعض السلوكات والتصرّفات الجديدة والخارج عن الثقافة الأصلية كما يقع في القارة الأفريقية. فقد يكون الزمن جزء من العلاج لكن بعد خسائر بشرية وتربوية لأجيال ولثروات مادية ومالية جمة.
وقد أحصى الأنثروبولوجي ( جورج موردك ) أكثر من 850 جماعة في أفريقيا لكل منها ثقافتها ومن ضمنها اللغة التي تنفرد بها. ممَّا يجعلنا نؤمن بان هذه القارة الغنية بثرواتها المادية والبشرية فهي غنية بموروث ثقافي متنوع مما يفرض على المدبرين السياسيين وكذا المجتمع الدولي والمدني، التمعّن في حجم هذا الموروث المهم وكيفية فهمه أولا وربطه بالتنمية الشاملة… واستخلاص بعض النماذج الموروثة لدى الإنسان الافريقي والذي يفهم مجاله ووسطه بشكل دقيق.
كوز: ربط الثقافة بالتنمية استجابة لتحدّيات المستقبل الأفريقي.
وأنا ابحث في هذا الموضوع اطّلعت على فقرة منشورة في موقع اليونيسكو على الشكل التإلى: “شكَّل وضع الثقافة في صميم سياسة التنمية استثماراً أساسياً في مستقبل العالم وشرطاً مسبقاً لعمليات عولمة ناجحة تأخذ بعين الاعتبار مبادئ التنوع الثقافي، علماً ان تذكير مجمل الدول بهذه المسألة الأساسية يقع على عاتق اليونسكو. وقد أثبت فشل بعض المشاريع الجارية منذ السبعينيات أن التطور لا يترادف مع النمو الاقتصادي وحده، بل هو وسيلة لصنع حياة فكرية وعاطفية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً. ولا يمكن بالتالي فصل التنمية عن الثقافة. ويشكّل تعزيز مساهمة الثقافة في التنمية المستدامة هدفاً تم إطلاقه في إطار العقد العالمي للتنمية الثقافية (1988-1998)، وقد تحقق منذ ذلك الحين نمو ملحوظ بفضل مجموعة من الصكوك الخاصة بوضع المعايير ومن الأدوات الإيضاحية كالإحصاءات الثقافية والجردات ورسم خرائط الموارد الثقافية على المستويَين الإقليمي والوطني.
ويكمن التحدّي الأكبر على هذا الصعيد في إقناع صانعي القرارات السياسية والفاعلين الاجتماعيين المحليين والدوليين بدمج مبادئ التنوع الثقافي وقيم التعددية الثقافية في مجمل السياسات والآليات والممارسات العامة، لا سيما عبر الشراكات العامة والخاصَّة.
وترمي هذه الاستراتيجية من جهة إلى دمج الثقافة في مجمل سياسات التنمية سواء ارتبطت بالتعليم أو العلم أو الاتصالات أو الصحة أو البيئة أو السياحة ( بالانجليزية)، وتهدف من جهة أخرى إلى دعم تطوير القطاع الثقافي عن طريق الصناعات الإبداعية. فبمساهمتها في التخفيف من حدّة الفقر، تنطوي الثقافة على منافع مهمَّة من حيث تحقيق التماسك الاجتماعي.”[8]
وانطلاقا ممّا سبق ومن هذه الفقرة الغنية والمعبّرة بشكل ميداني وباعتراف من منظّمة عالميَّة لها تجربة كبيرة في التنمية بمختلف مستوياتها وفي العالم أجمع. يتَّضح لنا بأن ربط الثقافة بالتنمية أصبح من الامور التي يجب التفكير فيها بشكل جدي في كل المناسبات وعلى اساسه يتم التخطيط لكل الاستراتيجيات المستقبلية لتحديث وتنمية القارة الأفريقية. فاليونسكو تعتبِر أن الثقافة هي التي تُترجم كِياننا، وأنها العنصر المُؤسّس لهويّتنا. فترسيخ الثقافة في صميم سياسات التنمية هو السبيل الوحيد لتحقيق تنمية تتمحور حول الإنسان، تكون شاملة وعادلة.[9]
على سبيل الختم:
وختاما وحسب علمنا فما زالت افريقيا تبحث عن نموذج تنموي مناسب لخصوصياتها، هذا الذي يؤكِّد مرَّة أخرى بأن هذا النموذج لا يمكن صناعته في مصانع وفي مختبرات أجنبيَّة بل لا بد من بلورته انطلاقا من أرض افريقيا ومن بيئة أفريقيا وبالتالي الانطلاقة من الثقافة الافريقية والتركيز على ماهية الإنسان الأفريقي… وبمناسبة اليوم العالمي للثقافة الأفريقية والثقافة ذات الأصول الأفريقية — الذي أعلنته يونسكو في عام 2019، ويُحتفل به سنويا في 24 كانون الثاني/يناير من كل سنة… الذي يرمي إلى الاحتفال بالثقافات الكثيرة والنشطة في القارة الأفريقية والشتات الإفريقي في جميع أنحاء العالم، وتشجيعها باعتبارها وسيلة فعالة لتحقيق التنمية المستدامة، والحث على الحوار وتحقيق السلام. وبوصف الثقافة الأفريقية الغنية مصدرا للتراث العالمي المشترك، فإن تعزيزها يغدو أمرًا بالغ الأهمية لتنمية القارة الأفريقية وللبشرية جمعاء. أدعو من خلال هذا المقال إلى التفكير بشكل كبير في كيفية ربط الجسور بين التنمية المرغوب فيها من طرف الدول التي تتنافس اليوم على ثروات القارة الأفريقية بما فيه دول اوروبا وأمريكا وكذا الصين وروسيا … والتعدّد الثقافي الذي تزخر به القارة الافريقية مع محاولة وضعها في صلب مختلف الدراسات الميدانية والاستراتيجية لجميع المشاريع التي تبرمج لهذه القارة.
فإذا كان الهاجس البيئي حاليا في العالم هو من بين الموجهات الكبيرة للتنمية الاقتصادية فإن المناعة الثقافية وكذا استحضار الموروث الثقافي سيبقى هو كذلك المدخل الأساسي والكبير لتوجيه التنمية في جميع مناطق العالم بشكل عام وفي القارة الافريقية بشكل خاص. دون أن ننسى استحضار التمييز الإيجابي لهذه الثقافة في جميع التدخلات سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية …. ليس لأن القارة الإفريقية قد عانت خلال تاريخها من الاستعمار بكل أشكاله، والذي يبدو أنها ما زالت تعاني تبعاته إلى حدودالآن، حيث لا تزال الكثير من المؤسّسات في الدول الغربية توظف التنمية لفرض أجندات سياسية معينة، إلى درجة أن البعض اعتبرها شكلاً جديداً من الاستعمار.[10] بل لمحاولة المصالحة مع الذات الافريقية وجعلها تفتخر بماهيتها وبهويتها وبالتالي جعلها إيجابية أكثر لتنخرط في كل سياسة تنموية جديدة. عن طريق اسثمار دمقرطة الثقافة وتقوية الهوية والاعتزاز بالذات عن طريق خلق ظروف مواتية لتنمية مشاركة الجماعة والتماسك والتجانس حيث تستطيع الثقافة أن تحافظ على صورة إيجابية أو سلبية عن الذات وقد تسهل أو تصعب عمليات التغيير والتغير.
– [1] العماد جان قهوجي،(دراسة بعنوان:الثقافة عامل اساسي في التنمية الشاملة)،مجلة الدفاع الوطني،(1-10-2000م) الموقع الرسمي للجيش اللبنانيhttp://www.lebarmy.gov.lb/ar/news/?1301#.UlemCRf7-SM
[2] – دوني كوش،(دراسة –عن مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية،ترجمة الدكتور قاسم مقداد)، منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق،2002م،ص7،8http://www.awu-dam.org
[3] إبراهيم اسعيدي : ” مشكل التعليم بالمغرب ومبادئ في الإصلاح ” ص 11 .
[4] ابراهيم اسعيدي ن نفس المرجع ص 11.
[5] عبد الباقي داود ” المدرسة المغربية والمنتوج القيمي الأخلاقي ” سلسلة التكوين التربوي ع 10 ص 65 .
[6] امحمد عليلوش ” نحو مفهوم الثقافة” موضوع بحث في مجزوءة فلسفة التربية الفصل الثالث بالمركز الوطني لمفتشي التعليم ، تاطير الدكتور بودريس بلعيد.
[7] دوني كوش “مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية” ترجمة قاسم المقداد منشورات اتحاد كتاب العرب ، دمشق 2002.
[8] الثقافة والتنمية | منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (unesco.org) بتاريخ 25 يناير 2021.
[9] تمّ إدراج الثقافة لأول مرة في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة، وذلك ضمن أهداف التنمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة في سبتمبر 2015. ولقد ابتهجت اليونسكو بهذه الخطوة وحيّت هذا «الاعتراف غير المسبوق”.
[10] حسب كتاب ” فكرة التنمية في افريقيا The idea of developement in AFRICA ” للكاتبتين : كوري ديكر – اليزابيث مكماهون.
*المصدر: التنويري.