يتحدَّث الكتّاب والأكاديميون عن الحرب والسلام، وكثيراً ما يبدو أن لديهم “تحيزاً”، يبرز من خلفية رواياتهم، التي تنطوي غالباً على وَصْفٍ مُعِيبٍ لما هو “خشن”، الذي يمكن إحالته إلى انطلاق طلقة، واختراق رصاصة، ودوي انفجار، وحدوث موت ودمار، أو هكذا نعتقد عند قراءة ما ينشرون. وهذا مجرد تقييم عام يمكن إضافته لخبرات سبقت، ووضعه في مجموعات تتشكل بها البيانات، التي تُرتِب فهمنا على مقتضيات ما يجري من صِراعات. وفي المجمل، ومع قدر من الثقة، يمكن لعلماء السياسة وضع أعمال الصراعات في نماذج يستخدمونها للإدلاء بتصريحات حول العالم. ونُدرِكُ تماماً أن الصراع يحدث عندما تنفجر الأوضاع المستقرة، ويتهدد العنف أشراط السلام. في حين أن عدد كبير من البيانات تُقرر أن المزيد من العنف سيحدث؛ على سبيل المثال، عندما يكون هناك عدد أكبر من التناقضات الاجتماعية، أو وجود صراع مصالح، ويكون تنافس الفرص الاقتصادية أكثر من المعتاد، أو عندما تكون هناك نظم هيكلية ضعيفة، وتكتنفها الكثير من الخلافات السياسية.
ومع ذلك، على الرغم من كل الثنائيات، التي تحفل بها روايات العنف الحرب، والتي تستمر في تشكيل نماذجنا المعرفية حول السلام والاستقرار، ربما يمكن في الواقع تحليل طبيعة أشكال الصراع. ماذا لو كان يمكن رؤيتها ليس على أنها حالات ثابتة، ولكن ديناميكية؛ لا تقع الحرب فيها في البداية، أو يُشَكِّلها العنف في النهاية، ولكن تبدأ أعراضها في الظهور، ويتلبد الأثير برؤيتها، وتتخصب تربتها بِفِطْر الصراع. فماذا لو كان العنف مصاحباً لها، وهو يُعَدُّ، في الواقع، شيئاً معيباً وخشناً؟ حسناً، قد ييمكن للكتاب والأكاديميون في حقول العلوم الاجتماعية التعامل مع ذلك بمناهج دِرْبَتِهِم، وثوابت خِبرتِهِم. إلا أن الديناميكيات الباعثة على الصراع يمكن أن تتخذ وسائل التعبير عن تفاعلاتها، ويمكن أن تتجه نحو فترة توترٍ قاتمة طويلة، وتوجه سلوك الاضطراب الاجتماعي الكامل.
فإذا كان من الممكن أن يكون العنف والحرب على هذا النحو، ويتم تعريفه داخل علوم اجتماعية عادية وحقيقية، فكيف نستطيع أن نُعَرِّف مجتمعاً مسالماً ومستقراً عندما تراه، أو نعيش فيه؟ وقد لا نصل إلى إجابة سليمة إذا ركنا فقط لسلامة مقولة إنه “إذا أردت السلام استعد للحرب”، وليس من الحكمة أن نطمئن دائماً إلى مُعادلة أن “تراكم الأسلحة الهجومية يمكن أن يكون دفاعياً بحتاً”، ولا أن “الطريق الأسوأ قد يكون أفضل طريق للمعركة. ونحن نعلم أن الإستراتيجية غالباً ما تتكون من مثل هذه الافتراضات، التي تبدو متناقضة مع ذاتها، أو كما يوضح إدوارد لوتواك، في كتابه “الإستراتيجية: منطق الحرب والسلام” الصادر عام 2001، فهي تجسد المنطق المتناقض، الذي يسود عالم الصراع بأكمله. إذ يكشف لوتواك عن المنطق الغريب للاستراتيجية على مستوى كل من الإستراتيجية الكبرى إلى التكتيكات القتالية. بعد مشاركته في التخطيط، يفحص لوتواك دور القوة الجوية في حرب الخليج عام 1991، ثم يكتشف ظهور حرب “ما بعد البطولة” في كوسوفو عام 1999 – وهي حرب أمريكية لم يقتل فيها أي جندي أمريكي. وفي تقليد كارل فون كلاوزفيتز، فإن الإستراتيجية تتجاوز التناقض لفضح ديناميات الانعكاس في العمل في بوتقة الصراع، وذلك عندما يتحول النصر إلى هزيمة بالامتداد المفرط للعمليات، بينما تجلب الحرب السلام عن طريق الإرهاق، وتتم الإطاحة بالمنطق الخطي العادي. نقلاً عن أمثلة من روما القديمة إلى أيامنا هذه، ومن بارباروسا وبيرل هاربور وصولاً إلى المشاجرات القتالية الصغيرة، ومن استراتيجية السلام إلى أحدث الأساليب العملياتية للحرب، يتكشف المنطق النهائي للفشل والنجاح في الحرب والسلام.
ففي ثمانينيات القرن الماضي، أعاد العلماء في مجالات التاريخ والعلوم السياسية اكتشاف أعمال كارل فون كلاوزفيتز، فيلسوف الحرب البروسي المعروف. وأدى هذا الاهتمام المتجدد بنظرياته إلى إحياء قصير لدراسة استراتيجية الحرب، التي تشمل جهوداً لاستغلال جدلية الحرب لتحقيق نصر عسكري وسياسي. وذلك بعد الاعتماد لعقود على أبحاث العمليات لتقليل احتمالية نشوب حرب نووية من خلال تعزيز الردع، وهو نهج ألغى إلى حد كبير الحاجة إلى استراتيجية تقليدية. لكن بدأ العلماء في إحياء كتابات كلاوزفيتز وتطبيقها؛ وإساءة تطبيقها في بعض الأحيان. وربما كانت استراتيجية إدوارد لوتواك: “منطق الحرب والسلام” أفضل عمل لإحياء كلاوزفيتز، لأنه قدم ملخصاً واضحاً لرؤى الفيلسوف العظيم في جدلية الحرب. في هذه العملية، صاغ لوتواك نظرية موجزة للحرب.
وفي تقديرنا أن تحليل لوتواك الدقيق يبدو مهماً جداً، لأن المراقبين والممارسين على حد سواء لا يفكرون في كثير من الأحيان في الحرب على أنها جدلية. لذا، فشلوا في بناء خططهم وسياساتهم على حقيقة أن نتائج الحرب لا يمكن تحديدها من جانب واحد، وبدلاً من ذلك يتم إنتاجها من خلال تفاعل كل من، أو جميع، أطراف النزاع. كما أنهم يفشلون في إدراك أنه في كل صراع توجد نقطة ذروة للنصر، على حد تعبير الفيلسوف البروسي كلاوزفيتز، حيث تبدأ السياسات الناجحة في إرساء الأساس للفشل، أو حتى الكارثة. على سبيل المثال، قد يجد الجيش المنتصر، الذي يسير بعيداً جداً في أراضي العدو “المهزوم” نفسه قريباً في نهاية خط إمداد غير مستقر، ويواجه خصوماً مستعدين الآن للقتال بعناد للدفاع عن وطنهم.
إن لوتواك يصف كيف يشكل الديالكتيك تأثير التكنولوجيا على الحرب وعلى الإستراتيجية التكتيكية والتشغيلية والمسرح، ويشرح كيف تتفاعل هذه المستويات للتحكم بنتيجة الصراع. فالحرب تهزم هذا الديالكتيك، خاصة في الاستراتيجيات الخطية، التي تنتج كفاءات “وقت السلم”. وقد يبدو من المفيد لعامل كفاءة التكلفة، على سبيل المثال، تركيز الأسطول الأمريكي في ثلاثة موانئ رئيسة فقط، ولكن في زمن الحرب، قد تكون هذه الكفاءة خاطئة لأن العدو سيحتاج فقط إلى مهاجمة ثلاث قواعد لشل الأسطول الأمريكي. وبالمثل، فإنه على الرغم من أن الطريق المباشر إلى وجهتك هو الأفضل في وقت السلم، إلا أن النهج غير المباشر؛ عبر التضاريس الجبلية، أو المستنقعات بدلاً من الطرق السريعة، التي يتم الدفاع عنها، قد يكون هو الأفضل في زمن الحرب.
بيد أن جوناثان شيل يشير في كتابه “العالم غير القابل للقهر”، الصادر عام 2003، إلى الطريق للخروج من دمار القرن العشرين نحو مسار آخر أكثر سلاماً. وتُبَيِّن تحقيقاته في الأحداث اللاعنفية العظيمة في العصر الحديث؛ من حركة استقلال غاندي في الهند إلى انفجار النشاط المدني، الذي أدى إلى الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي، إلى أسس من نوع جديد تماماً لبناء سلام دائم. كما يوضح شيل، يجب أن تتوقف الحرب الشاملة، مع خطر الانقراض البشري، عن لعب دور الحكم النهائي، وأن يسود “منطق السلام”، الذي يحفظ كينونة وكيان الإنسانية. ويقترب البعض من هذا الفهمنبتشجيع عمليات الاختراق العميق، التي تكون المعلومات فيها ذات أهمية قصوى، ويلعب القادة في الخلف دوراً سلبياً نسبياً، مقارنةً بأولئك الموجودين في الموقع، الذين يركبون على رأس كل عمود، ويقررون على الفور ما إذا كانوا سيهاجمون القوات المقاومة في طريقهم، أو يتخطونهم فقط لمواصلة التقدم السريع. في الواقع، يحتاج المقر الأعلى للعمليات إلى القليل من المعلومات والاتصالات، التي تكون في الغالب في اتجاه واحد؛ من الأمام إلى الخلف، مع وجود عدد قليل جداً من الطلبات في الاتجاه الآخر.
لهذا، يمكن أن يؤدي تطبيق هذا المنطق للحرب والسلام إلى نتائج سيجدها الكثيرون مزعجة، مما يستلزم ضرورة فصل النوايا الحسنة للفاعلين عن نتائج مبادراتهم. ففي السنوات الأخيرة، تم وصف العمليات الإنسانية، وحفظ السلام، والتدخل الدولي في النزاعات العرقية، والمساعدات طويلة الأجل للاجئين، على أنها طرق بناءة لإنهاء إراقة الدماء والدمار، التي لا داعي لها. وينتقد لوتواك حفظ السلام باعتباره مضللاً لأنه “يمنع تحول الحرب إلى سلام” من خلال القضاء على الحوافز، التي تدفع الخصوم للتفاوض من أجل حل نزاعهم. ويطبق أيضاً هذا المنطق لدحض آمال المحاربين وافتراضاتهم، في حين سيجد المتحمسون لسلاح الجو عدم الاستقرار في تأكيده على أن قصف الصناعة الألمانية النازية ساعد في تحفيز إنتاج الحرب الألمانية. وقد أدى تدمير المنازل والمصانع القائمة إلى خلق أعداد كبيرة من العمال العاطلين عن العمل، الذين كانوا على استعداد لقبول العمل في الصناعات الحربية.
ولهذا، فعلى الرغم من أن المنطق المتقدم في الإستراتيجية مقنع، إلا أنه غالباً ما يكون من الصعب تطبيقه في الممارسة العملية، خاصة عندما يطرح المرء الوضع الراهن المستمر، أو يعرض الاتجاهات الحالية في عمليات الحرب والسلام. إذ يوجد هذا “المنطق المتناقض للاستراتيجية” بعيداً عن الجهات الفاعلة في النزاع، والوقت عنصر ديناميكي في العمل خارج الإستراتيجية. بعبارة أخرى، إذا كان مرور الوقت ملائماً وكان المنطق المتناقض للاستراتيجية يفترض شكلاً ديناميكياً، فإنه يصبح التقاء، بل وحتى الانعكاس، للأضداد حتمياً. لذلك، في مجال الإستراتيجية، لا يمكن أن يستمر مسار العمل إلى ما لا نهاية، بل سوف تميل إلى التطور إلى نقيضها، ما لم يتفوق على منطق الإستراتيجية بعض التغييرات الخارجية في ظروف المشاركين.
ويعلم العسكريون المحترفون، أكثر من غيرهم، أنه عندما يجب تخصيص موارد التطوير النادرة بين المفاهيم العلمية المتنافسة والتكوينات الهندسية، فمن غير الحكمة الاعتماد على الحكم العلمي والهندسي وحده فمن غير المرجح أن يرى العلماء والمهندسون ميزة في تحويل الموارد لتطوير متنوع ثاني أفضل المعدات جنباً إلى جنب مع نظرائهم الأمثل، لكن هذا هو بالضبط ما تتطلبه الحكمة. مثال على ذلك هو طائرة إف-16 عالية المناورة وغير المكلفة نسبياً، التي يتم استخدامها الآن بواسطة العشرات من القوات الجوية حول العالم. وجاء في الأخبار أن القوات الجوية الأمريكية وافقت على “المقاتلة الخفيفة الوزن” فقط بسبب حث جون بويد ومعاونيه؛ وإن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لهم، لكانت القوات الجوية قد توقفت مع طائرة إف-15 المطلية بالذهب، والتي يمكن لعدد قليل من الدول تحمل شراءها. وهذا يحيلنا، جزئياً، إلى فكرة الاستنزاف والمناورة في الحرب: “في الطرف الآخر من الطيف؛ أي من حرب الاستنزاف، هناك مناورة علائقية، وعمل مرتبط بخصائص الهدف، حيث بدلاً من السعي لتدمير الجوهر المادي للعدو، يكون الهدف هو إعاقة الاضطراب المنهجي؛ سواء كان “النظام” هو هيكل قيادة قوات العدو، أو أسلوبهم في الحرب ومجموعة القتال، أو حتى نظاماً تقنياً فعلياً؛ على سبيل المثال، خداع الرادار بدلاً من تدميره.
لقد حاولت دراسات كثيرة إيضاح طريقة عمل التناقض الديناميكي والانعكاسات اللاحقة، على المستويين الفني والتكتيكي؛ لا يزال يتعين على المعنيين في المؤسسات العسكرية النظر في المستويات الوسطى من الإستراتيجية، مع تقديرنا أنه من المفيد في كل مرحلة أن يتقصد القادة الصعود إلى مستوى الإستراتيجية الكبرى، حيث تتفاعل كل مسألة معينة مع مأزق الصراع بأكمله، بلوغاً لهدف السلام. إذ تخضع التعاملات الحربية للقادة الوطنيين والحكومات مع بعضهم البعض لنفس منطق الإستراتيجية تماماً، وبمثل تفاعلات قواتهم المقاتلة. لكن الأمر الذي ينبغي أن يُدرِكه هؤلاء القادة هو أن هذا المنطق الكامن وراء كل التعقيدات يُصَرِّح بأن الحرب تعتبر من الأمور النادرة الدرامية في العلاقات بين الدول، على عكس الصراعات المنخفضة المستوى للنزاعات الداخلية، التي لا نهاية لها. وبالتالي، فإن النتائج الطبيعية، التي تظهر على مستوى الإستراتيجية الكبرى ليست نتائج الحرب بل “الإقناع المسلح” كما تُسمى في الأدبيات السياسية. فهي لا تقل أهمية عن عدم وجود أي صراع مسلح مرئي، لأن الإقناع المسلح ليس أقل من القوة، أو بشكل أدق ذلك الجزء من قوة الدول، الذي ينبع من قوتها العسكرية الحارسة للسلام.
_______________
* دبلوماسي سوداني، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي، الأردن.
الخميس، 27 مايو 2021
القاهرة، جمهورية مصر العربية
*المصدر: التنويري.