لا شكَّ أنَّ المثل في أيسرِ تعريفاتهِ هوَ لونٌ أدبيِّ يقومُ على اِختزالِ العِبارةِ، وتوظيفِ التَّشَابيهِ البليغَةِ والموسيقى الإيقاعية المتصاعدَةِ لاِستهدافِ حكمةٍ أو موعظةٍ يُودُّ إيرادها للأجيالِ المتعاقبةِ.
ووحدُها الأمم العريقةِ والشُّعوبُ الراقيةِ الأصيلة من تحوزُ على كثافةٍ معتبرةِ من الأمثلةِ التي ترصدُ أنماطًا من المواعظِ والدروسِ والمغازيِّ التي تعكسُ وجودَ رؤيةٍ وجودية استثنائيَّةِ تتملَّكُ مؤلِّفيهِ، كونَ المثلُ هو نتاجُ بصمةٍ أسلوبيَّةٍ جماعيَّةٍ، وهندسةٍ دلاليَّة يخطُّها المخيالُ الشعبيِّ.
وقد اِقتدَر الشَّعبُ الفلسطينيِّ على تأسيسِ جمعٍ من الأمثالِ التي تحاكيِّ يومياتِهِ النضاليَّةِ ومعاركهِ الضَّاريةِ لأجلِ الحفاظِ على هويَّتهِ وكينُونَتهِ من الاِندثارِ في ظلِّ سياسةِ الكيانِ الغاصبِ الرَّاميةِ إلى إبادةِ الشَّعبِ الفلسطينيِّ.
لعل من سماتِ الهوية المقاومة التشبُّث بالأرضِ وتعهُّدِ تربتِها بالعنايةِ والرِّعايةِ، كما في تفاصيلِ المثلِ القائلِ: “الأرضُ كالعِرضِ”، تدلِيلًا على الارتباط المقدَّس بين الفلسطينيِّ وأرضهِ، فهو يغَارُ عليها كمَا يغارُ الزَّوجُ على أهلهِ.
وفي نفسِ السِّياق نعايِنُ مَثلًا يقولُ: “الأرضُ لا بتنحَرِق ولابتنسَرقِ” وهذا بلا أدنى شك يؤكِّد العلاقَةِ الوثيقةِ بين الفَلسطينيِّ وأرضهِ المعطاء التي قلَّما تخونُهُ، فهوَ لا ينفك بالذَّودِ عنها وحمايةِ تخومِهَا.
والأمُّ هيَ أيقونة النِّضال الفلسطينيِّ فهيَ تمثل الخصوبة بإنجابِها للرجالِ الأشَاوس كقولهم: “ابن بطنيِّ بِعرف رَطنيِّ” يُضرب هذا المثل للأولادِ البررةِ الذين يلتزمُونَ بوصايا الأمِّ ويتقيَّدونَ بآثارِهَا.
والشَّخصية الفلسطينيَّة بطبعها ميالةٌ إلى إثباتِ ذاتِها في ميادينِ الكفاحِ، غير آبهةً بما يقالُ في المجالسِ كقولِهم: “اِتعب أقدامَك ولا تُتعِب لِسانَكَ” يراد بالمثلِ الدَّعوةِ إلى مجابهةِ الأعداءِ فعلًا لا كَلامًا.
ويأبى الفلسطينيِّ العيشَ بمذلةٍ فهو مستعدُّ للموتِ لأجلِ صونِ كرامتهِ، كمَا يعكسه المثل الآتيِّ: “تِحتَ التُّرابِ ولا عِندَ الكِلابِ”. أي تفضيلُ الموت على استجادةِ الحياةِ المهينةِ، واستحضار العيشِ الضنك على قساوتهِ والبعدِ عن الأمكنةِ التي يفشو فيها الذلُّ والاستغلالِ ولو كانت في قصورٍ مشيَّدة.
لا تتورَّع الشخصية الفلسطينيَّة في مجالسِها عن تواردِ الأمثلة التي تدعو للتحلِّي بالصَّبر والتجلُّد كقولهم: إللِّيِّ بتاجِر بالأرواح مَا بيكون نوَّاح، ساهمت المجانسة الصوتية التي ضخَّها صوتُ الحاءِ في احتكاكِ المدِّ الشعوريِّ بجدرانِ التجربةِ الحياتيَّة بالرغمِ من صعوبَتها، فالمثل يدعو لامتطاءِ صهوةِ المجدِ لكن في مقابلِ تحمُّل فواتيرِهِ وضريبتهِ من خلالِ مكابدةِ عناءِ الشدائدِ والتكيُّفِ مع النوازل، والصَّواعقِ واجترارِ الخطوبِ.
تُحدِّثنا الأمثال عن ولعِ الفلسطينيِّ بميراثِ الأجدادِ فهوَ لا يبرحُ في اقتناصِ جذوةِ الرجولةِ عنهم كما في هذا المثل: إللِّيِّ يعرف أبوه وجدَّه يمشيِّ على قدِّه. فالأشرافوحدهم من ينتهجون الأصالة في مناحي الحياة لا الميوعةِ في معينِ الغربِ والتيهِ في بيداءِ ثقافتِهم.
لعل خوض الحروبِ والمعاركِ يصقل الشخصية ويُنميِّ الذكاء ويفعِّم فقهياتِ الفراسةِ التي عبرَها نستبصرُ حقيقة الأوجهِ التي تتخفى وراء أقنعةٍ مصطنعة كقولهم: إللِّيِّ حسبناهُ موسَى طلع فرعون، إحالة إلى مجرياتِ النزاع الفلسطيني مع دولة الكيانِ الغاصب وكيف باع القضية من ألفنَا فيهم التُّقى والوفاء.
ولا تتردَّد الذاكرةُ الشعبيَّة الفلسطينيَّة في إيلاءِ تقدير أكبر لمن امتلك ناصيةَ الحدسِ السَّليمِ والفكر القويم من عركَ الصِّعاب، وكابد المستحيل فبلغَ منتهاهُ وقهرَ يأسهُ كقولِهم: بِسحب الحيَّة من وكرهَا إشادة بمن يقدرُ على اقتفاءِ رزقهِ، فهو ضليعُ بتتبُّعِ مواطنِ الرزقِ والغنَى لا يعمد إلى مدِّ يدهِ أو تلطيخِ كرامتهِ.
والثأرُ ممَّن اِغتصبَ الأرضِ رغيبة عاجلة وفرضُ عينٍ على كل فلسطينيِّ رأى الهوان قد عمَّر فناءهُ وهذا ما نلفيهِ في المثل الآتيِّ: ما بخليِّ الثار إلا رديِّ الخال أي سارع إلى استرجاعِ حقك المهضوم، وحريتك المكلومةِ.
لا تودُّ الشخصية الفلسطينيَّة المقاومةِ افراغ وقتِها في الاستماعِ لثرثرةِ الناسِ غير المؤهلةِ للذودِ عن عرينِها فيقولون: “ما بضرِّ السَّحاب نبح الكلاب” بمعنى لا يعبأ الشَّخص الناجح بألسنةِ الناسِ العاطِلة عن تحصيلِ ما أنجزه.
إن الابتلاءاتِ المتكرِّرة كالنارِ التي تُظهرَ معدن الذهبِ ونجدُ ما يُعادلُ هذهِ الحكمة، المثل القائل: ما بِطلَع الزيتِ إلا من كُثر العصير. فالتهجير، قساوة التعذيب، محن السُّجون،كلها أسهمت في صقل الشَّخصية الفلسطينية المناضلة لا إبادتِها أو ثنيِها عن الكفاح من أجل استرداد مطالبِها كما يتوهَّم العدو.
ولئن احتدمت المصائبُ وكثر الهولُ والارتعاب من تنامي الاغتيالات الغادرة والقتل الممنهج الذي يفتعلهُ المستوطنون اليهود إلا أن ذلك لم يردع الفلسطينيِّ بل زادهُ يقينًا على النصر لذلك، فهو لا يفتأ في التهكُّم على كلِّ رعديدٍ جبان استرهبَ نياح الصهاينةِ وترك الديار، فيقولون: ما بنزل الوسط إلا النَّذل والخايف إشارة إلى من يخشى التوطُّن بديارهِ البعيدة فيؤوب إلى بيتٍ في قلبِ مدينةٍ عامرةٍ بالسُّكان وهذا حتى يتَّقيَ كيدَ اللصوص وقطاع الطرقِ الذين هم في الغالب من عصاباتٍ يهوديَّةٍ متطرفةٍ.
مهمَا خان البعض القضية وباعوها في مزادِ التَّطبيعِ فإن الفلسطينيِّ مُصمِّمٌ على مواصلةِ غمار الكِفاَح ولو كانت بيدهِ حجارةً يُلقمها في فاهِ كيانٍ قلبهُ رخوٌ يهتزُّ رعبًا من صياحِ الصبيانِ لذا يقول المثل: ما بنفعَك إلا ذراعَك، إماءةً إلى الاستقلاليَّة التي تعتملُ الذات الفلسطينَّة وهي تُجابهُ التحدياتٍ لوحدها، وهيَ في منأى عن صخبِ الإعلامِ والضَّجيج الذي تحدثهُ منابرُ السَّاسةِ والأصوات الموازية التي تسعى للتكسُّبِ والشهرةِ فوق أشلاء الفلسطينيِّين.
لو ناطحتك الرَّزايا فلا تجزع، فهناك من مرَّت عليهِ المصائبُ الشِّداد ومع ذلك مازال على رؤوس جبالِ العزِّ شامِخًا هذا ما يلهج بهِ المثل الفلسطينيِّ التاليِّ: إلمبلول ما بخَاف رشق المطر. بمعنى صار الفلسطيني مقداما لا يبالي بالأخطار مادام الموت جليسهُ في كل حين، والدم يلوِّن جدرانَ يوميَّاتهِ.
قياسًا على ما قيل: نستنتِجُ أن الأمثال الشَّعبيَّة الفلسطينيَّة هيَ دستورُ إباءٍ تعكسُ تجذُّر الفلسطينيِّ بأرضهِ، واستتبَابِ هويتهِ على مبادئ نضاليَّة وحضاريَّةٍ أصيلةٍ.
_______
*معطى الله محمد الأمين من الجزائر.
*المصدر: التنويري.