كندا هي مثال ساطع على حقيقة أن الادعاء بأن “المجتمع متعدد الثقافات” لا يمكن أن ينجح هو مجرد هراء رهيب. يجب أن يتعلم المنظرون الأوروبيون الذين يرفضون مصطلح المجتمعات متعددة الثقافات شيئا من التجربة الكندية.
منذ تسعينيات القرن العشرين ظهر نقاش في المجتمعات الأوروبية بين السياسيين ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، حول قضية “المجتمع متعدد الثقافات”. مع تصاعد النقاش خلال السنوات الأخيرة بسبب زيادة أعداد المهاجرين واللاجئين، أصبح المصطلح ذاته ملتبساً عند العديد من الأطراف، حول ما يعنيه ويتضمنه المفهوم. إن الإشكالية في أحد أجزائها يكمن في كيفية التفسير.
يمكن أن يعني المصطلح شيئين: أولاً، مجتمع يستوعب الأشخاص من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية مختلفة.
وثانياً، مجتمع يتم فيه منح مجموعات من الناس حقوقاً خاصة بناءً على أصلهم العرقي وهويتهم الثقافية.
إذا كان المرء مؤيداً للمعنى الثاني فهو “متعدد الثقافات” أيديولوجياً. وإذا وجد المرء أن النوع الأول من المجتمع ذا قيمة ويدعمه، فإن المرء يؤمن وفقاً للتقاليد الليبرالية بـ “التعددية”.
تمثل التعددية وجهة النظر القائلة بأنه من الجيد للمجتمع أن هناك قيماً وهويات ثقافية مختلفة يمكن للمواطنين التعبير عنها في حياتهم الخاصة. ولكن من المهم أيضاً إخضاعهم وتكييف قاعدة قيمة مشتركة لحياتهم العامة، حسب ما ينظر له عالم الاجتماع الثقافي الدنماركي “مايكل بوس” Michael Böss المتخصص في تاريخ الهوية الوطنية والقومية في جامعة آرهوس الدنماركية.
من المفارقات بسبب هذه التعددية، أن دولة مثل كندا لديها سبب للاحتفال في كل عام بذكرة تأسيسها كدولة متعددة الثقافات. وبما أن المجتمع الكندي ليس “متعدد الثقافات” إلى حد كبير في أي شيء آخر غير هذا المعنى، يجب أن يعرف الجمهور الأوروبي المزيد عن كندا التي تعتبر مثالاً ساطعاً على حقيقة أن الادعاء بأن “المجتمع متعدد الثقافات” لا يمكن أن ينجح هو مجرد هراء رهيب. تماماً كما أنه من الخطأ فهم إعلان كلاً من “ميركل وساركوزي وكاميرون” للمجتمع متعدد الثقافات على أنه “ميت” بأي طريقة أخرى بخلاف اكتشافهم أن أيديولوجية التعددية الثقافية قد أفلست.
إن الطريقة التي يمارس بها الكنديون “المجتمع متعدد الثقافات” اليوم، واضحة شريطة ألا يتم تأكيد الهوية الثقافية على حساب القيم الليبرالية والديمقراطية، والولاء للدولة والتضامن مع المواطنين الكنديين.
بالمناسبة، ما يُعد هوية ثقافية للكنديين بعيد كل البعد عن الغموض. يذكر “بوس” في مقالة له عن التعدد الثقافي منشورة في موقع جامعة آرهوس بعنوان “عندما يعمل المجتمع متعدد الثقافات” Når det multikulturelle samfund fungerer واقعة خلال زيارته لكندا “في الشهر الماضي، كنت أنا وزوجتي نقف في وقت متأخر من الليل، في محطة ترام في شارع رئيسي في تورنتو، عندما اقتربت منا فتاة صغيرة بشكل عفوي، وأخبرتنا أنها عادت لتوها من الحديقة القريبة، والتي كانت لا يزال يصدر منها موسيقة إيقاعية مرتفعة. قالت الفتاة: أنا قادمة للتو من هناك. يوجد مهرجان أفريقي وأنا أحب الحفلات الأفريقية، مضيفة أن عائلتها أتت من مصر. قلنا إننا كنا هناك أيضاً في وقت سابق من اليوم وأن زوجتي اشترت قلادة جميلة. جعلت بشرتنا الفاتحة الفتاة تستنتج دون تحيز أننا أتينا من جنوب أفريقيا. حتى في وقت مبكر من اليوم، وجدنا أن كونك “أفريقياً” في تورنتو يعد مفهوماً واسعاً جداً. شيء لا علاقة له بلون البشرة، بل بالإعجاب بنوع معين من الموسيقى والطعام. وبالتالي، فإن المهرجان الأفريقي ليس مخصصاً للأشخاص ذوي الجذور البيولوجية في إفريقيا – على الرغم من أنه من الواضح أن معظم المشاركين لديهم تلك الأصول.
كندا المتعددة
إن مبادرة إعلان كندا دولة متعددة الثقافات اتخذها رئيس الوزراء الكندي الخامس عشر الليبرالي الشهير “بيير إليوت ترودو” Pierre Elliott Trudeau في خريف عام 1971. كان الدافع وراء ترودو هو إبعاد الرغبة المتزايدة في الاستقلال لدى دولة “كيبيك” Quebec الفرنكوفونية. لكنه سرعان ما أدرك أن “التعددية الثقافية” يمكن أن تكون مفيدة أيضاً لإدماج المهاجرين في المجتمع الكندي. على الرغم من أنه ينتمي إلى الأقلية الناطقة بالفرنسية في البلاد، إلا أنه لم يدعم حركة استقلال “كيبيك” ودعا إلى سياسة إصلاح تقدمية واستقلال اقتصادي أكبر عن الولايات المتحدة.
في هذا السياق وضع “ترودو” خمسة أهداف للسياسة الكندية الجديدة:
1ـ حماية حقوق الإنسان للمواطنين الأفراد.
2ـ تطوير هوية كندية مشتركة.
3ـ تعزيز مشاركة المواطنين في المجتمع.
4ـ تعزيز وحدة كندا كدولة اتحادية.
5ـ تشجيع التنوع الثقافي في إطار ثنائية اللغة.
في البداية لمشروع “ترودو” طابعاً قومياً ليبرالياً واضحاً. كان يهدف إلى تعزيز كندا كمجتمع وطني. لذلك يجب النظر إلى مبادرته في ضوء حقيقة أن الحكومة الليبرالية السابقة لعهده بقيادة “ليستر بيرسون” Lester Pearson قد قدمت بالفعل في عام 1965 علماً وطنياً جديداً – الأحمر والأبيض مع ورقة القيقب – للإشارة إلى أن كندا قد تطورت إلى دولة ذات الهوية الخاصة التي كانت مختلفة عن الهوية “البالية” البريطانية والهوية “المهددة” الأمريكية.
لأكثر من قرن، ولأسباب تاريخية، كان لدى كندا “فسيفساء” عرقية أو “صحن سلطة” أكثر من “بوتقة” كما هو حال المجتمع الأمريكي. أصبح لهذا النمط الآن فضيلة، حيث إنه لا ينبغي استيعاب المهاجرين فقط، بل “الاندماج” أيضاً.
كان على المهاجرين الاحتفاظ بهويتهم العرقية والثقافية وليس تبديلها بالسمات التي تنطبق على الأغلبية. يعتقد “ترودو” أن الاعتراف بالهوية العرقية للمهاجرين سيجعل من السهل دمجهم في المجتمع الكندي.
هذه السياسة التي حظيت بدعم من الأحزاب الكندية المختلفة، تم توسيعها لاحقاً من خلال قوانين تحظر التمييز ضد الأقليات، وتعزز التكامل الاقتصادي والحراك الاجتماعي. وهكذا، في عام 1982 أضاف الدستور الكندي ميثاقاً خاصاً للحريات والحقوق، يضمن حقوق الإنسان الفردية والحقوق المدنية، ويحظر التمييز المباشر وغير المباشر على أساس الجنس، والتوجه الجنسي، والإعاقة، والحمل، أو الخلفية العرقية، والمعتقدات الدينية. ليس هناك شك في أن النضال النشط ضد التمييز كان له تأثير كبير على حقيقة أن المواطنين الذين ينتمون إلى خلفية عرقية وثقافية غير الأغلبية يعيشون في كندا كمجتمع عادل وجيد ومريح، وبالتالي يعبرون صراحة عن سعادتهم بكونهم كنديين.
عدد قليل من البلدان في العالم تبنت ما فعلته كندا، حيث إن العلم أحد أهم الأشياء التي توحد بشكل كبير الكنديين من جميع المناطق، فهو فخر بلدهم متعدد الأعراق والقيم.
كانت مبادرة “ترودو” في الأصل بمثابة بادرة تجاه المجموعات المختلفة في المجتمع الكندي وليس كسياسة للانحراف عن التعددية الليبرالية التي دافع عنها حزبه. ومع ذلك، تطورت التعددية الثقافية في العقود التالية، إلى أيديولوجية قانونية هددت هدفها الأصلي – لتوحيد الكنديين في شعب واحد – لأنها شجعت المهاجرين على التماهي مع مجموعتهم الثقافية أكثر من الانتماء لكندا.
كما فشل الحزب الليبرالي الحاكم في التأكيد للمهاجرين، على أن التحول إلى كنديين أجبرهم على التكيف مع القيم الديمقراطية للمجتمع. ومع ذلك، فإن مشكلة التعددية الثقافية كأيديولوجية يتم ملاحظتها في كندا في السنوات الأخيرة.
على الرغم من أن “ترودو” نفسه كان من الكيبيك، إلا أن الكثيرين اعتبروا منذ البداية أن التعددية الثقافية تشكل تهديداً للوضع الخاص للسكان الناطقين بالفرنسية كواحد من “الشعبين الأساسيين” في كندا، مما يؤدي ببساطة إلى مواءمة الثقافة الفرنكوفونية مع ثقافات الأقليات العرقية المختلفة. لذلك فقد امتنع عن استخدام المصطلح، لكنه يتحدث بدلاً من ذلك عن “التداخل الثقافي”.
تُعرَّف التعددية الثقافية رسمياً على أنها “نموذج ترتبط فيه المشاريع الفردية للأقليات العرقية بمجتمع وطني شامل له قيم مشتركة”. وبالتالي فإن التعددية الثقافية تعني إظهار الاحترام النشط والانفتاح على الأشخاص من خلفيات عرقية وثقافية ودينية أخرى مختلفة، ولكنه احترام ينبع من فهم الانتماء إلى نفس المجتمع اللغوي والسياسي والوطني.
وهكذا، فإن التعددية الثقافية في الواقع تمثل الموقف والخلفية وراء مبادرة “ترودو” في عام 1971. وعندما يعمل “المجتمع متعدد الثقافات” في كندا بشكل جيد وسلس كما هو الحال الآن، فذلك لأن معظم الكنديين يتشاركون في هذا الرأي، ويرفضون عملياً وجهة نظر التعددية الثقافية. ويؤمنون بحقيقة أن المجتمع الكندي يمكن أن يعمل بدون ثقافة عامة واحدة، وهوية مشتركة واحدة.
إنه نفس الاستنتاج الذي دفع رئيس الوزراء البريطاني السابق “ديفيد كاميرون” في وقت سابق إلى إعلان نفسه معارضاً لـ “المجتمع متعدد الثقافات” إذا كان المصطلح مفهوماً أيديولوجياً.
لقد أراد ببساطة أن ترى الأقليات العرقية في بريطانيا نفسها على أنها بريطانية أكثر، ولم تكن يعارض التنوع الثقافي في حد ذاته. لذلك فإن الجمهور الأوروبي لديه ما يتعلمه من كندا، ولكن بشكل خاص من “كيبيك” بسبب تعدد الثقافات.
كيف هي الصورة في الدنمارك؟
المجتمع متعدد الثقافات يهدد التماسك
يعتبر أن الاتحاد الأوروبي، والتعددية الثقافية أكبر تهديد للتماسك في الدنمارك.
هذه النتيجة وصل لها الباحث الدنماركي “كاسبر ستوفرينغ” Kasper Støvring من جامعة “جنوب الدنمارك” Syddansk Universitet قسم الأدب والثقافة والإعلام، الذي أمضى ثلاث سنوات في البحث عن السبب. يمكن تلخيص إجابته في التماسك الذي يهدده “التعدد الثقافي”
في الواقع تُظهر الاستطلاعات الدنماركية أن 90% من الدنماركيين يثقون ببعضهم البعض. لكن الدنماركيين الذين يثقون بالمسلمين تبلغ بنسبتهم 55% فقط من عموم الشعب.
بالرغم من أن العديد من الدراسات الدولية توثق أن الدنمارك بلد يتمتع برضا فريد وثقة بين الناس، ومجتمع لا يحدث فيه الفساد والمحسوبية إلى حد كبير، وينظرون لهذا كونه أهم سبب لقوة التماسك في الدنمارك.
يذكر “ستوفرينغ” في دراسته أن “القوة المتماسكة الكبيرة في الدنمارك، تعني أن ينظر المواطنون إلى قوانين البلد على أنها خاصة بهم وأن الدولة هي دولتهم”
وهو يعتقد أن التماسك يولد السلام والتسامح، ولكن له بعض السلبيات أيضاً.
“الرابط الوثيق بين المواطن والدولة يعني أن السياسيين يترددون في تنفيذ إصلاحات كبرى تمس جوانب الرفاهية الاجتماعية للناس مثلاً، ليس فقط لأنهم يخافون من الاضطرار إلى الاعتذار عن ذلك في الانتخابات المقبلة، ولكن لأنه من الخطورة كسر رابطة الثقة التي تشكل أحد ركائز التماسك”
يعتبر أن السياسيين الدنماركيين مشلولين، لكن الجمود السياسي أبعد ما يكون عن قلقه الأكبر. هو يرى أن التماسك الذي استغرق بناؤه قروناً يمكن أن ينهار سريعاً. ويشير في دراسته إلى كشفت عن سوابق في الخارج.
بولندا على سبيل المثال، كانت حتى استيلاء الشيوعيين على السلطة بعد الحرب العالمية الثانية بلد تماسك كبير. لكن المطالبة بالولاء للحزب الشيوعي أوجد انقساماً مجتمعياً، وتسببت المراقبة المكثفة للمواطنين في انهيار الثقة بين الناس والدولة في وقت قصير.
الاتحاد الأوروبي يقوض التشريع الدنماركي
تبدو التهديدات في الدنمارك مختلفة بعض الشيء. فهي تتكون أساسًا من التعددية الثقافية والاتحاد الأوروبي كما يراها “ستوفرينغ”.
“مع الاتحاد الأوروبي، نشهد إصدار قوانين وقرارات قانونية لا يمكننا التماثل معها. إصدار بعض الأحكام من المحكمة الأوروبية على سبيل الذكر، هذا يعني أن المحامون في الاتحاد الأوروبي يعملون على تقويض أحد أهم أسس التماسك في المجتمع الأوروبي، وهي سياسة الهجرة”
لا يشعر أن القوانين التي يقرها السياسيين الدنماركيين وفقاً للمعايير الأوروبية، أنها قوانين “دنماركية” ويحذر من خطورة التماسك عندما يتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً بشأن البرلمانات الوطنية.
التعددية الثقافية تهديد
ومع ذلك، فإن التهديد الأكبر من وجهة نظر “ستوفرينغ” هو ما يصفه بالتعددية الثقافية – إن الدنمارك مقسمة إلى عدد كبير من المجتمعات الصغيرة، كل منها يزرع الخلفية الثقافية التي يجلبونها معهم من بلدانهم الأصلية.
»هناك أدلة دولية واسعة النطاق على أن التعددية الثقافية تمنع الثقة المتبادلة – ليس فقط فيما يتعلق بالتجمعات الأخرى، ولكن أيضًا داخلياً داخل المجموعة والدولة، وبالتالي تهدد تماسك المجتمع. تظهر الاستطلاعات الدنماركية أن 90٪ من الدنماركيين يثقون ببعضهم البعض، لكن 55٪ فقط من الدنماركيين يثقون بالمسلمين”
وفقاً لدراسة “ستوفرينغ” إن حقيقة أن الدنماركيين يديرون ظهورهم بشكل متزايد للمدارس الابتدائية والإعدادية العامة، بسبب الأعداد المتزايدة من أبناء المهاجرين واللاجئين، هي واحدة من عدة علامات على أن التماسك المجتمعي في الدنمارك مهدد.
يشير إلى العديد من الأشياء التي يمكن للسياسيين القيام بها لمكافحة هذا الاتجاه، مثل نشر وتوزيع الطلاب من خلفيات عرقية غير دنماركية أخرى في المزيد من المدارس، ومعالجة الغيتو والمجتمعات المتوازية، والامتناع عن العمل الإيجابي مع المهاجرين في المدارس، بمعنى أنه لا توجد لحوم حلال في مؤسسات الرعاية النهارية، ولا يوجد إعفاء للفتيات المسلمات من نشاط المخيمات والمعسكرات الخارجية، ولا رقابة على حرية التعبير، عندما يتعلق الأمر بالسخرية فيما يتعلق بجميع الأديان.
يطالب “ستوفرينغ” بالحق في ممارسة السخرية من جميع الأديان، بالرغم من أن الدين الوحيد الذي يتعرض للنقد الشديد والسخرية في الدنمارك هو الإسلام.
كما يدعو في الوقت نفسه، إلى تشجيع أولئك الذين لديهم خلفيات عرقية أخرى ـ من غير العرب والمسلمين ـ على المشاركة في حياة الجمعيات الدنماركية، والتي يعتبرها أحد الأسباب الرئيسية لوجود مجتمع يتمتع بهذه القوة المتماسكة الكبيرة.
العلم أم السياسة؟
لكن هل فعلاً التماسك المجتمعي شيئاً مثيراً فقط للسياسيين ووسائل الإعلام، فيما الغالبية العظمى من السكان لا يهتمون؟
الباحث “ستوفرينغ” لا يوافق على هذا الرأي. هو يعتقد “أن الكثير يشير إلى عكس ذلك. لا يزال هناك قدراً كبيراً من الشكوك حول الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن السياسيين كانوا يتحدثون عنه بشدة منذ سنوات عديدة. وأغلبية كبيرة من الدنماركيين تؤيد سياسة هجرة صارمة. أرى كلاهما كتعبير عن تقدير الدنماركيين لقوة التماسك، على الرغم من أنها قد لا تكون الكلمة التي يستخدمونها”.
موقف ورؤية الباحث تتقاطع كثيراً مع مواقف اليمين السياسي الدنماركي، خاصة رؤية حزب الشعب اليميني المتشدد، حول قضايا عديدة من ضمنها “الإسلام، الهجرة، اللجوء، الاندماج، القيم” لا أعرف حقيقة إن كان “ستوفرينغ” سياسياً أم باحثاً.
كم أنت سياسي، وكم أنت باحث؟
يوضح “ستوفرينغ” موقفه لوسائل الإعلام قائلاً “أعلق أهمية كبيرة على حقيقة أنني كتبت كتاب نقاش قائم على الأبحاث تستند فيه حججي إلى دراسات وإحصاءات. لكن من الواضح أنها ليست معرفة موضوعية وخالية من القيمة. الشيء العلمي هو أنني أقدم مصادري ووثائقي بموضوعية”
لكنه يضع بحثه في زاوية خاصة، حيث من السهل على السياسيين توظيف مثل هذه “الدراسات” لتأجيج مشاعر الناخبين. من الواضح أن الباحث لديه نزعة محافظة شعبية، حيث أكد كثيراً ـ على سبيل الذكر ـ على القومية بشكل إيجابي للغاية.
عالم الديموغرافيا الدنماركي “بول كريستيان ماتيسين” Poul Christian Matthiessen ذكر قبل حوالي عشرين عاماً أن جميع التجارب التاريخية تشير إلى أن المجتمعات المتباينة تخلق العديد من الصراعات. اثار موقفه حينها من الهجرة ضجة كبيرة في الدنمارك، ويحاول العديد اليوم، تأكيد أن بحثه كان صحيحاً.
ففي عام 1999 أثار أستاذ الأبحاث السكانية الرائد في الدنمارك “ماتثيسن” ضجة عندما استنتج من منحنيات السكان أن الدنمارك تشهد هجرة لا مثيل لها في التاريخ. هجرة ستغير الدنمارك إلى الأبد، لأن المهاجرين غير الغربيين بحلول عام 2020 سيشكلون ما يصل إلى 10% من السكان الدنماركيين.
اليوم يحاجج بعض الشعبويين أن التنبؤات التي سببت الكثير من الضجة في ذلك الوقت صحيحة.
لقد انتقلت الدنمارك من كونها تضم سكاناً متجانسين للغاية، إلى مجتمع يشكل فيه المهاجرون غير الغربيين اليوم 7% من السكان اليوم، وفي عام 2050 سيشكل المهاجرون غير الغربيين حوالي 11% من السكان.
في حينها قال “ماتثيسن” يجب ألا نجعل المجتمع متعدد الثقافات مجتمعاً رومانسياً. لكنه على عكس كثيرين لم يطالب بوقف تدفق الهجرة نهائياً.
“لا أعتقد أننا يجب أن نلغي الهجرة. لكن الشيء المهم هو أننا في الدنمارك يجب أن نحصل على هجرة ايادي عاملة وهجرة كفاءات، وليس هجرة تعتمد على اللجوء السياسي أو الاقتصادي، أو لم شمل الأسر من ثقافة أخرى”
لا يمثل استقبال المهاجرين المهرة وسواهم من أوروبا والولايات المتحدة مشكلة بالنسبة للدنماركيين. هم ثقافيا يتماشون مع المجتمع الدنماركي. المشكلة هي فيما يُطلق عليهم في الدنمارك ـ المهاجرين غير الغربيين ـ ويُقصد بهم المهاجرين المسلمين القادمين من مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والكثير منهم لديهم تعليم متدني، ولديهم ثقافة ونهج مختلف تماماً في المجتمع عن الدنماركيين.
هذا هو السياق الذي تكمن فيه مشاكل الاندماج الحقيقية. وقد كان هذا الإشكال ملحوظاً بشكل خاص في بعض البلديات بالدنمارك أكثر من سواها.
خلال فترة التسعينيات اقترح هو والعديد من السياسيين إنشاء لجنة للهجرة، والتي يمكن أن تلقي الضوء على مشاكل الهجرة، وتضع لها المعالجات.
حاولت وزيرة الشؤون الاجتماعية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي آنذاك “كارين جيسبرسن” Karen Jespersen فعلاً تأسيسها، لكن الراديكاليين عارضوا ذلك. كانوا يعتقدون أن الأرقام يمكن أن يُساء استخدامها. في ذلك الوقت كان هناك الكثير من الصمت حول المهاجرين، وتم إخفاء الموضوع في الحملات الانتخابية.
يعتبر “ماتيسين” أنه بسبب التستر السياسي على مشاكل الهجرة، تولدت عواقب سيئة كثيراً.
في التسعينيات، كان الرأي السائد في الدنمارك، هو أن المهاجرين كانوا عاطلين عن العمل لأنهم تعرضوا للتمييز. لكن “ماتثيسين” له رأي مختلف، حيث يعتبر أن السياسيين أهدروا بعض السنوات لأنهم لم يرغبوا في الاعتراف بأن البطالة كانت بسبب المهارات الضعيفة ونقص التعليم لدى المهاجرين، لكنه يعترف أنه تم إحراز تقدماً كبيراً منذ ذلك الحين.
يتفق السياسيون في الدنمارك من جميع الأطراف على أن البطالة بين المهاجرين والأحفاد هي واحدة من أكبر المشاكل المجتمعية، وأنه يجب التركيز على تعلم اللغة الدنماركية في المدارس الابتدائية والإعدادية.
في الوقت نفسه، تم إدخال قاعدة الـ 24 عاماً حداً أدنى للزواج، وشرط الانتساب للدنمارك، كإجراءات للحد من عدد لم شمل الأسرة للمهاجرين.
لا يتجاهل “ماتثيسين” حقيقة أن هناك العديد من المهاجرين المندمجين جيداً ولديهم تعليم جيد، وأن العديد من الفتيات على وجه الخصوص يبلي بلاءً حسناً في التعليم والاندماج والعمل.
لكن بشكل عام، لا يزال معدل التوظيف منخفضاً للغاية، وتطور الفتيات ليس وردياً لدرجة أنهن يتدربن بسرعة فائقة، كما تقول وزيرة الشؤون الاقتصادية “مارغريت فيستاجر” Margrethe Vestager.
من الأمور المحزنة أن الزواج يتم أولاً وقبل كل شيء مع مهاجرين آخرين. لذلك هناك خطر حقيقي من تضخم المجتمعات الموازية، كما يشرح “ماتيسين” ويشير إلى حقيقة أن الدنمارك استقبلت في وقت سابق مهاجرين ذوي خلفية ثقافية أوروبية تم استيعابهم في المجتمع الدنماركي بعد جيل أو جيلين.
ويرى أن الدنمارك لديها العديد من المهاجرين من دين يتعارض مع بعض القيم الأساسية للمجتمع الدنماركي، مثل أن الرجال والنساء يجب أن يعاملوا على قدم المساواة، وأنه يمكن للمرء مناقشة جميع القضايا. هذا يمثل مشكلة للمجتمع من وجهة نظره. وفي الوقت نفسه، فإن بعض المهاجرين معادون قليلاً لأسلوب الحياة في أوروبا، مما يؤدي إلى إعاقة عملية الاندماج.
يقول إن الدنماركيون الذين ذهبوا إلى الولايات المتحدة سيكونون أمريكيين. لقد قبلوا المعايير الموجودة في المجتمع وبالتالي تم دمجهم.
على المدى الطويل يعتقد “ماتيسن” أن المجتمع الدولي يجب أن يكبح الهجرة من الدول غير الغربية من خلال إعادة التفكير في سياسة اللاجئين بأكملها.
إن غالبية الأشخاص الذين يطلبون اللجوء في الدنمارك هم لاجئون لأسباب اقتصادية، ولا يحصلون على حق اللجوء السياسي. في الوقت نفسه الذي يعيش فيه ملايين الأشخاص حياة فقيرة في مخيمات اللاجئين حول العالم.
القلة من اللاجئين ممن لديهم المال الذي يدفعوه للمهربين، يمكن أن يصلوا إلى الدنمارك. أي أن الأموال التي ننفقها على الاندماج تأتي من عمل مساعدة الناس في مخيمات اللاجئين الفقيرة في العالم.
ويعتقد أنه يجب على الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إيجاد نظام يتيح لطالبي اللجوء البقاء في مناطقهم المباشرة.
يتم رفض غالبية طالبي اللجوء لأنهم لاجئون لأسباب اقتصادية. بهذه الطريقة، يتم تقويض نظام اللجوء. كما قال “ثورفالد ستولتنبرغ” Thorvald Stoltenberg (المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من 1990 إلى 1993) أن هذا التطور برمته يقوض نظام اللجوء.
لكن ماذا تفعل مع الكثيرين الذين يفرون حالياً من سوريا وأفغانستان؟
بدلاً من قبول قلة منهم كطالبي لجوء، يجب أن تُعطى الأموال التي ننفقها على نظام اللجوء إلى مخيمات في الأردن أو باكستان، على سبيل المثال. يجب تناول هذه القضية تحت رعاية الأمم المتحدة. اليوم يوفر نظام اللجوء المال لمجموعة صغيرة، بينما تعيش مجموعة كبيرة من اللاجئين حول العالم في فقر مدقع.
إحدى الحجج الديموغرافية الرئيسية ضد الهجرة غير الغربية هي أن المجتمع متعدد الثقافات يميل إلى خلق توترات.
يجب على المرء أن يحرص على عدم إضفاء الطابع الرومانسي على المجتمع متعدد الثقافات. فكر في الهند، التي ابتليت بالصراعات العنيفة بين الهندوس والمسلمين. في أوروبا يتم تقسيم بلجيكا إلى قسمين بسبب الصراعات بين “فلمنجس” flamlændere و”الون” vallonere. وفي إسبانيا، هناك صراعات في “كاتالونيا” Catalonien التي تهدد بالانفصال.
ولا يرى أن الولايات المتحدة مثال ناجح لمجتمع عرقي شديد التعقيد. ويعتبر أن المواطن الأمريكي لديه رعاية اجتماعية للمجتمع بأسره أقل بكثير من المواطن الدنماركي.
“في الدنمارك لدينا درجة عالية من الثقة في بعضنا البعض لأننا نعرف بعضنا البعض. إذا كانت الاختلافات في المجتمع كبيرة جداً فلن يمنح المرء المال للآخرين لأنهم مختلفون جداً عن نفسه”
تظهر استطلاعات الثقة أن هناك درجة عالية من الثقة بين الدنماركيين بعضهم ببعض، في حين أن الثقة أقل كثيراً في المجتمعات الأكثر تبايناً وتعدداً من المجتمع الدنماركي.
ولكن أليس حلما أن نعتقد أنه يمكن للدنمارك مرة أخرى أن تصبح مجتمعاً أكثر تجانساً في عالم تسوده العولمة؟
يقول “ماتيسين” أنه عندما قامت مؤسسة Rockwool Foundation بفحص قضايا اللاجئين فيما مضى، اتضح أن نسبة كبيرة منهم كانت تزور وطنهم بعد أقل من خمس سنوات من منحهم حق اللجوء. يشير هذا إلى أنه من الصعب للغاية التمييز بين اللاجئين الاقتصاديين واللاجئين الحقيقيين.
لكن أليست الدنمارك على طريق تقليل أعداد المهاجرين غير الغربيين؟
مُنحت غالبية تصاريح الإقامة في العام الماضي البالغ عددها 57000 لأشخاص من الصين والولايات المتحدة وأوروبا الذين كانوا يعملون أو يدرسون في هذا البلد. في حين تم منح 2902 تصريحًا للم شمل الأسرة في مقابل 4768 في العام السابق.
فيما مضى كانت الهجرة غير الغربية متواضعة. ولكن لا يوجد سبب للاعتقاد بأن هذا التطور سيستمر على المدى الطويل. أصبح العالم أكثر اضطرابا ويأتي المزيد من اللاجئين من أماكن مختلفة في العالم، التي تشهد صراعات وحروباً أهلية.
ما يشغل بال الديمغرافي العجوز في هذه المرحلة، هو التغيير الديمغرافي في القارة الأوروبية.
في الدنمارك، الوضع ليس سيئاً تماماً، كما هو الحال في البلدان الأخرى. لأن معدل المواليد الأحياء لكل امرأة في الدنمارك هو 1.7.
ولكن هذا المعدل بالنسبة لأوروبا انخفض معدل المواليد إلى 1.5.
وفي جنوب وشرق أوروبا على وجه الخصوص، يكون معدل المواليد منخفضاً جداً.
تستند الثقافة الأوروبية على بعض القيم الفريدة لحرية التعبير والمساواة. إذا لم يتم حل المشاكل السكانية، فسوف يضعف ذلك النمو الاقتصادي ويضعف صوت أوروبا، وسوف تتحول أوروبا إلى قارة للمسنين.
لا يمكن حل هذه المشكلة إلا إلى مع المزيد من الهجرة، وليس الحد منها، لكن يجب أن تكون هجرة بالضوابط الصحيحة.
مراجع:
- Støvrnig. Kasper, Sammenhængskraft, Forlag Gyldendal, E-bog, København, 2016.
- Böss. Michael, From Mosaic to Multiculturalism: The Canadian Roots and Characterof Multiculturalism, Aarhus Universitetsforlag,
E-bog, 2016.
_________
حسن العاصي*
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك
*المصدر: التنويري.