المقالاتفنون

الفنون؛ بين المعنى الرمزي والقيمة الاقتصادية

الصناعات الإبداعية

المقدمة:

يركز هذا المقال على مفاهيم الصناعات الإبداعية، بالإشارة إلى تعريف كل من الفن والإبداع، مع الحفاظ على المفهوم القائم على اقتصاد المعرفة بمحتوى ثقافي معين، واستصحاب السمات المميزة لكل من الإنتاج الفني والإبداع الثقافي. وعلى هذا النحو، فإنه يؤيد حجج الصالح العام الهامة لدعم الدولة للثقافة، وإدراج القطاع الثقافي، والأهداف الإبداعية، في أجندة اقتصادية ذات علاقة بالاقتصاد والتنمية المستدامة. وهنا لا بد من تمييز المعايير الخاصة بهذه السمات أيضاً؛ مثل، الملكية الفكرية، والمعنى الرمزي، وقيمة الاستخدام، وأساليب إنتاج. ففي جانب الإبداع، غالباً ما تُوصف الصناعات الثقافية والإبداعية بأنها تلك، التي تقوم على الأفراد، إذ يعد الإبداع المرئي والفن المكون الرئيس لها. ومع ذلك، يبدو أن هذا، وكأنه اعتساف لتعريف “الصناعات الإبداعية”، لأن أي نشاط ينطوي على الفن سيكون بالضرورة “إبداعاً”، وإذا لم يكن هناك تعريف آخر، فسيكون هذا موافق للغرض. كما أن أي ابتكار، بما في ذلك الابتكارات العلمية والتقنية؛ من أي نوع، وفي أي مكان، يمكن تصنيفها [نها “صناعة إبداعية”. ومن هذا المنطلق، فإن أي صناعة من المحتمل أن تكون فناً إبداعياً يلحق باقتصاديات الصناعة. رغم أن الخلط بين الإبداع الثقافي، وجميع أشكال الإبداع الأخرى، لا يفي بالغرض، إذا احتسبنا الاختلافات المهمة بين الصناعات الثقافية والإبداعية، وهي نقطة تسمح الملكية الفكرية للأشخاص بامتلاك منتجات إبداعهم، مما يضمن، بشكل حاسم، أن هناك شيئاً يجب بيعه. وبالتالي، ممارسة كل من الاقتصاد والحقوق المعنوية على هذه المنتجات، التي تُعتبر الأساس لتعريف الصناعات الثقافية.

رؤية تاريخية:

إذا قُدِّرَ لنا تتبع تطور معنى مصطلحات مثل “الفن”، وبالترابط، “الفنان”، يمكن العثور على جذور الاستخدام الحديث له في الثورة الصناعية، إذ تعلقا بالسمة الإنسانية، أو المهارة، في الإبداع، الذي انتقل إلى الاعتراف به كنوع من المؤسسات، أو مجموعة من الأنشطة الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد أن مصطلح الفن انتقاله، من مجرد الإشارة إلى أي مهارة بشرية، إلى مهارة جاءت للدلالة على مجموعة معينة من الإبداعات المتعلقة بـ”الخيال”، أو “الفنون الجمالية”. كما خضع مفهوم الصناعة أيضاً لعملية إعادة تنظيم كبيرة خلال الثورة الصناعية. ومثل الفن، انتقلت الصناعة من كونها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الفردي، ووصف سمة بشرية، مثل الشخص المجتهد، إلى سمة تشير إلى مجموعة، أو مؤسسة جماعية قائمة بذاتها. كما بدأ يُنظر إلى الصناعة على أنها كلمة عامة للتصنيع وأشكال الإنتاج الأخرى. وكان آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”، الصادر عام 1776، من أوائل من استخدموا المصطلح بهذه الطريقة الجديدة، وأن الصناعة، كمؤسسة، سرعان ما تم رسملتها اقتصادياً. وكانت القوة الدافعة، بالطبع، هي إدخال الآلات والعمليات والفنون الصناعية الجديدة للإنتاج، التي غيرت طريقة عمل الناس، وتنظيم حياتهم اليومية والجماعية، وطريقة عمل المجتمع من حولهم.

لقد نشرت مجلة “الطبيعة – Nature”، في عددها 131، بتاريخ 21 يناير 1933، مقالة بعنوان: “الفنون في الصناعة”، عضدت الرأي القائل عندئذ بأن الإنتاج الضخم يميل بالضرورة إلى ميكنة الصناعة والمجتمع. وقالت إنه على الرغم من التحدي القوي، الذي يواجهه قادة الصناعة؛ مثل السيد هنري فورد والسيد فيلين، يجد دعماً كافياً للتأكيد على أهمية الدراسات الاستقصائية، في ذلك الحين، لموقف الفن الصناعي في بريطانيا العظمى. في الواقع، إن حقيقة أن السيد فورد والسيد فيلين يبنيان الكثير من حجتهما على الفرصة، التي تتيحها زيادة وقت الفراغ لتطوير الفنون إلى حد ما، مما يبرز أهمية الفحص النقدي لموقف الفن فيما يتعلق بالصناعة، ويستلزم بعضاً من الجهد المبذول لتحديد ما إذا كان الإنتاج الضخم في ظل الظروف الصناعية الحديثة ينطوي على قدر ضئيل جداً من الذكاء، أو الحرفية في عملياته بحيث تكون النتيجة هي توظيف العاملين في الصناعة بشكل أساسي من قبل أشخاص قليلي الأجر من ذوي الذكاء المنخفض.

بيد أنه في الأيام الأولى للنهضة الليبرالية الجديدة، تقول سوزان غالاوي وستيوارت دنلوب، في مقالة لهما بعنوان: “الصناعات الثقافية والإبداعية في السياسة العامة”، نُشرت في “المجلة الدولية للسياسة الثقافية”، المجلد 13، رقم 1، بتاريخ 2007، إنه كان لهذه الأفكار في الممارسة والقانون أمراً خيالياً، لأن هذه الأفكار كانت معادية لنص وروح دولة الرفاهية. لكن الليبراليين الجدد أدركوا أنه من أجل تغيير المشهد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، كان عليهم أولاً تغيير المشهد الفكري والنفسي. لكي تصبح الأفكار جزءاً من الحياة اليومية للناس والمجتمع، يجب تعبئتها ونقلها ونشرها من خلال الكتب، والمجلات، والمؤتمرات، والندوات، والجمعيات المهنية، والمنظمات الطلابية، وكراسي الجامعات، ووسائل الإعلام، وما إلى ذلك. كما أن تعريف القطاع الثقافي بقدرته إنشاء الملكية الفكرية على نطاق واسع، قد زاد من أهمية الجوانب المميزة للقطاع الثقافي بكامله.

الصناعة الثقافية: 

تُحدثنا الكثير من المصادر، بما فيها قواميس اللغة، أن المصطلحات، التي تُستخدم في تعريفات الفن، ومتعلقات الثقافة، لا تستقر على حرفٍ مُعَيَّن. وتضطرب أكثر عندما نتجه لربطها بسياسة الصناعات الإبداعية، واقتصاديات المعرفة. فقديماً كانت هذه المصطلحات تفتقر إلى الدقة، إلا أنها أصبحت أكثر اتساقاً، من أي وقت مضى، إذا قاربناها مع الأهداف المتوخاة في موازنات الدول المتقدمة. رغم أن عبارات؛ مثل، “الصناعات الثقافية”، و”الصناعة الإبداعية”، و”اقتصاديات الفن”، غالباً ما تستخدم بالتبادل؛ فهناك القليل من الوضوح حول هذه المصطلحات، والقليل من التطبيق المُوَحَّد، أو التفسير الرسمي، للاختلاف بينها. ويُنظر أحياناً إلى الفنون الإبداعية؛ الأدب، وفنون الأداء، والفنون البصرية، كجزء من الصناعات “الثقافية”، أو “الإبداعية” وأحياناً لا، ولكن يتعاظم الاتفاق على جدوى تضمين “المنتجات الفنية” في اقتصاديات المعرفة. وإذا كان من قصور يشوب كسبنا الخاص؛ كدول عربية، في زيادة حصيلتنا المادية، كما المعنوية من الفن، فإن المسألة في رأيي تتعلق بضعف التصور لكل من الفن والإبداع، الأمر الذي له آثار على السياسة العامة للقطاع الثقافي بأبعاده المختلفة، بما فيها حساب المردود الاقتصادي.

غير أنه لا بد لنا من الاعتراف بأنه قد حدث تحول كبير في مواقف الكثير من المؤسسات الرسمية العربية تجاه الثقافة، سواء على مستوى الانتاج، أو الدعم، أو الترويج والتسويق، وهو تحول ينطبق عليه مصطلح “الصناعات الإبداعية”، الذي يتضمن أكثر من مجرد إظهار “العلامة التجارية” العربية على المنتجات الإبداعية، بل السعي لإدخالها كمكون مهم في رصيد الدخل العام. فقد أصبحت الفنون والثقافة مدرجة في أجندة الصناعات الإبداعية، والإشارة إلى الترفيه التجاري المنتج صناعياً؛ إذاعة، وأفلام، ونشر، والموسيقى المسجلة، التي تختلف عن “الفنون” المدعومة، وفنون الأداء المرئية، والمتاحف، وصالات العرض. وهذا الفهم هو ما يدعم الثقافة بمبادرات؛ مثل، سياسة الصناعات، التي استنتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، ومجلس أوروبا، في عامي 1978 و1980 على التوالي. وفيما حدد الأوربيون تدابير لتحقيق أهداف السياسة العامة في المجال التجاري لموضوعات الصناعات الثقافية، رفضت اليونسكو، في تحليلها لهذه الصناعات، التقاليد المثالية للدعم الثقافي الحالي للدولة، وتلخصت رؤيتها في أن الذي تم بالفعل هو تلبية الاحتياجات الثقافية للسوق من “الفنون” المدعومة من الدولة، وليس لمعظم الناس. وفي نفس الوقت، وتقديراً للواقع، تعمدت الكثير من الدول الأوربية البحث عن مبررات معززة لتخفيضات دعمها للثقافة. ومن ناحية أخرى قدمت الحجج حول الأهمية الاقتصادية وكأن الفنون والثقافة يقدمان الإجابة على ذلك. إذ أخذت هذه الدول، على نحو متزايد، لغة وأيديولوجية الفنون كصناعة، بينما كان مفهوم “الصناعات الثقافية” في الأصل منفصلاً عن الفنون الإبداعية، ولكن أثناء ذلك كان ممثلو الفنون الإبداعية يضغطون بشكل فعال ليتم تضمينهم كجزء من الصناعات الثقافية.

إن ما يُثلج صدر الكثيرين الآن، أنه صار يُنظر إلى الفنانين والأنشطة الفنية ليس فقط على أنها ذات قيمة في حد ذاتها، ولكن أيضاً كمساهمين مهمين في الاقتصاد. وتلعب الفنون دوراً اقتصادياً مباشراً في للدول، من خلال مبيعات وإيرادات مجموعة متنوعة من الأنشطة، بما في ذلك المسرح، والمتاحف، والفنون، وصالات العرض، والأوبرا، والحفلات الموسيقية، ودور مزادات المقتنيات الثمينة، وإنتاج الأفلام السينمائية، والتلفزيونية، وغيرها. وتعد المواقع الثقافية، في كل بلد، نقطة جذب سياحي رئيسة، وغالباً ما تشجع الأفراد والشركات على الانتقال إليها، أو البقاء فيها. ونظراً لأننا، فردياً، أو جماعياً، قد شرعنا في تَفَهُّم أهمية الطرق العديدة للاستفادة من الفنون في عالم اليوم لمعاجة الاضطراب الاقتصادي وإحداث التغيير، فمن المفيد أن نكون واضحين بما نعنيه بمصطلحات مثل “الفن” و”الثقافة” و”صناعة”، وإدراك ما قد تعنيه المصطلحات نفسها للآخرين. فالكلمات، التي نستخدمها، تقول الكاتبة آن إم جاليجان، لها تاريخ يُحَدِّثُ بالكثير عن مكان العمل، الذي نسميه “الفن”، الذي يكمن في حياتنا الجماعية من فترة إلى أخرى، أو ربما، بناءً على اهتماماتنا الخاصة، قد نُفكر في “الفنون”، أو “الثقافة”، أو “الموسيقى”، أو “الرسم”، أو “الأدب”، أو حتى تطورت العلاقة بين الفن والثقافة والعمل والمجتمع، بأنها في حالة تغير مستمر. ويمر المجتمع بعملية إعادة تنظيم مماثلة مع الثورة التكنولوجية سريعة الحركة، إذ تغيرت الطريقة، التي نعمل بها ونعيش وننتظم بشكل جماعي، تماماً كما حدث خلال الثورة الصناعية قبل ثلاثة قرون. وأدت تقنيات اليوم إلى تغيير أنماط طبيعة العمل؛ مثل، الإنتاج والتوظيف والتنظيم الاجتماعي. وبدورها، تتحدى هذه التغييرات التعريفات السابقة لشروط الثقافة، والفن، والفنان، والصناعة.

خاتمة:

لقد ثبت لنا، تاريخياً، أن الدعم الإنساني للإبداع والثقافة كان مقصوراً على الأداء الاستعراضي والفنون المرئية، إلا أنه في المراحل الأخيرة، توسع تعريف الفنون والثقافة، واتخذ المجال نهجاً أكثر استراتيجية لمواجهة المظالم المنهجية للفنون والارتقاء بالمجتمعات الإبداعية. في هذه الحالة، يمكن النظر إلى نظام اقتصاد المعرفة، وكيف يدعم القطاعان العام والخاص التحول الجوهري، من أجل دفع المبدعين والفنانين ليكونوا منتجين اقتصادياً. لهذا، يجب تشجيع الأشخاص، الذين يجرون الأبحاث، ويقومون بالتفكير، والكتابة، والتحدث، والنشر، والتدريس، والإعلام، والتثقيف على مواصلة عملهم، والحصول على أجر مجزٍ مقابل القيام بذلك. لأننا إذا أردنا أن تصبح الأفكار أكثر عصرية، والفنون أكثر جاذبية، والإبداع أكثر فاعلية من غيرها، فيجب تمويلها. ويتطلب الأمر أموالاً لتأسيس بنى تحتية فكرية، ولتعزيز رؤية معينة للحياة الإبداعية بكمالاتها؛ يرفع فيها الفن من قدر الاقتصاد وقدراته.

________

*الصادق الفقيه:  دبوماسي سوداني، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

الأربعاء 7 أكتوبر 2020

القاهرة جمهورية مصر العربية

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات