في الفقر والغنى
إنّ العالم يعيش صراعات على مختلف الأصعدة، ووُجدت هذه الصراعات منذ أن وُجد الإنسان، والتي ظهرت من ضمنها الصراعات الطبقيّة. بين كفتي ميزان غير متوازية. وإنّ الفقر يمثّل أحد هاتين الكفتين في عالمنا الذي نعيشه. إنّ موضوع الفقر جرَت مناقشته في العديد من المباحث، وهو ليس بموضوع حديث. وكانت له وجهات نظر مختلفة من قِبل علماء في عدة مجالات، كلٌ على حسب نظرته لماهية الفقر.
وفي حقيقة الأمر ما يهم هنا ليس معرفة ماهية الفقر، ولا من هو الفقير، بقدر ما يهمنا معرفة الإشكالية الواقعة بينهما، ولماذا وُجدت، ومن السبب في ذلك، وما السبب. وهل الفقر نقص في الوسائل والموارد كما تم تعريفه من قبل الكثيرين، أو هو نقص في القدرات من ناحية مدى استطاعة الفرد على إنجاز مهام ووظائف في النظام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي ينتمي له. فنحن هنا لا ننظر لإمكانات وموارد، بل ننظر لفرد في شخصه. وليس قدرة نظام، أي هل أتيحت الفرصة لهذا الفرد أن يحسّن من إمكانياته وينجز وظائفه التي تسمح له من الخروج من دائرة الفقر المرسومة؟
الفقر تحكمه تصورات ثقافية ودينية، إذ لا يمكن أن تكون الوسائل المادية مقياسًا له، ناهيك عن أنها نسبية مختلفة من دولة إلى أخرى. وبالتالي فإن توافر الوسائل أو انعدامها ليس مقياسًا للفقر. فالموارد التي توصف بأنها قليلة في دول أوروبية مثلًا هي كثيرة جدًا في دول آسيوية وافريقية. ولكن لابد من الإشارة هنا إلى أن القدرة التي يجب أن يخلق منها الفرد إنجازًا للخروج من الفقر لا تتم بمعزل عن السياق الجماعاتي والمجتمعي. ومن هنا فلا يوجد مجال لمفهوم الفردانية المنهجية في المقاربة بالقدرات أو تحليلها.[1] وهنا نستطيع أن نقول متى يمكن للوسائل أن تكون ذات قيمة في تحديد الفقر؟ عندما تكون لها قابلية لأن تترجم إلى قدرات، التي هي في الأساس مطلب للوصول لمستوى معيشي لائق. ومن هنا لا يمكن للفرد أن يحقق ذلك المستوى بمعزل عن المجتمع. وهنا نعود لنفس الدائرة، المجتمع، من حدد من هو فقير ومن هو غني ومن وصم الفقير بتلك الوصمة منذ ولادته.
وفي هذا يقول دوركايم ما دام ثمّة أغنياء وفقراء بالولادة فإنّه لا يمكن أن يوجد عقد عادل، ولا توزيع عادل للشروط الاجتماعية[2]. وبالتالي ما حدده المجتمع واعتبره قاعدة هو ما يجري التعامل معه. وبالطبع نحن لا نرى الفقير الذي ولد فقيرًا، وإنما نرى وضع من أنجبه فقيرًا، وأسباب فقره، والتي هي في الأساس يجب أن نسمّيها تفقيرًا بحسب الرأي القائل بأن ليس هناك فقراء، وإنما توجد فئات اجتماعية جرى تفقيرها.
إنّ تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر، وهذا الرأي الآخر لكارل ماركس[3]، والذي نراه في غاية المنطق، والذي يؤكد على أن التفقير جرى من نواحي اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية أيضًا. ولا يكتفي المجتمع بذلك، بل يرى بأن الفقراء هم من اختاروا وضعهم بحسب نظرية الاختيار العقلاني فهل يعقل أن يختار الفرد لنفسه بوضع لا يتناسب للعيش الكريم؟ وكأن المجتمع هنا يبرئ نفسه من الوضع الذي ألقى فيه من أسماه فقيرًا.
إن مجتمعنا اللئيم يخلق أسباب الفقر والعاهة من جهة، ثم يحتقر المصابين بهما من الجهة الأخرى. وبذا ينمي فيهم عقدًا نفسيّة لا خلاص منها بحسب ما قاله علي الوردي[4]، وهو كذلك حيث أنه يختار للفقراء وضعيتهم عن طريق تفقيرهم، ويجعلهم مصابين بداء الفقر، بل ومجبرين على تصديق أن هذا هو اختيارهم. كذلك تفعل الطبقة البرجوازية من ناحية ممارسة الاستغلال على البروليتارية، ذلك الاستغلال الذي هو شرط من شروط تحقيق النفوذ السياسي للبرجوازية، ومن هذا المنظور يطلق ماركس على الفقر الاغتراب والاستغلال، وحتى القوانين التي تسنّها البرجوازية في تحسين وضع العمّال تعود في النهاية بالنفع لها من ناحية تحسين جودة الإنتاج وزيادته.
يذكرنا هذا بالقوانين العالمية حول حقوق الانسان وبالتحديد المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص على أن “لكل شخص الحق في مستوى معيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاه له ولأسرته، ويتضمن الغذاء والسكن واللباس والعناية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية. وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والشيخوخة والترمّل، وغير ذلك من أنواع فقدان وسائل العيش نتيجة ظروف خارجة عن إرادته”.[5]
تلك القوانين ما زالت حتى اليوم لا تكفل حقوق الفقراء للأسف، بل ازدادت الفجوة بعد العولمة والعصر الحديث بين الأغنياء والفقراء، بل وأصبح الأغنياء في غنى عن العمال، وكما قالت حنه ارندت أصبح المجتمع الحديث مجتمع “عمال بدون عمل”[6]. مجتمع رأسمالية بلا عمل وديموقراطية بلا حقوق. أليس هذا كافيًا للقول بأن هذه الفئات الاجتماعية يجرى تفقيرها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا .ليس من حل لهذه المعضلة الإنسانية إلا بوعي هذه الفئات للوضع المُعاش حتى يتسنّى لهم الحصول على أبسط الحقوق المفروضة على المجتمع الدولي. من تحقيقها لهم، بناءً على القوانين التي تنصّها وتشرّعها، والتي من المفترض العمل بها وفقًا لما جاءت عليه. ومن هنا نراهن على مقولة ماركس في أن الفقر لا يصنع ثورة، وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، والطاغية مهمته أن يجعلك فقيرًا وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائبًا[7].
ومن خلال المشاركة السياسية لمن تم وصمهم بالفقراء يمكن التخلص من نظرة الأشرار والأراذل التي تم وصفهم بها ثقافيًا، والتي أكدت استحقاقهم لوضعية الحرمان التي يعيشونها. عندما ترون أن الفقير هو من قرر أن يكون فقيرًا هنا يجب إعادة النظر في وضع الديمقراطية والسياسة المتبعةعلى أن يُسمح لهذه الفئات تقرير مصيرها، وبالتالي حتمًا لن يختاروا وضعية لا تؤمّن لهم العيش بكرامة ولا نمطًا اقتصاديًا منتجًا للفقر.
المراجع
غباش، منوبي. “فكرة الفقر وواقع الفقر”. عُمران. المجلد 8. العدد 30. (2019)
شوهد في https://l1nk.dev/VDCxH
شوهد في https://l1nq.com/1FZjx
شوهد في https://acesse.one/qN9AW
شوهد في https://l1nq.com/xNMHa
[1] منوبي غباش، “فكرة الفقر وواقع الفقر”، عُمران، المجلد 8، العدد 30 (2019)، ص 86
[3] https://l1nq.com/1FZjx
[5] منوبي غباش، “فكرة الفقر وواقع الفقر”، عُمران، المجلد 8، العدد 30 (2019)، ص 95
[6] غباش، فكرة الفقر، ص106
[7] https://l1nq.com/xNMHa
___________
*فاطمة الجابري.