الذكاء الاصطناعي؛ مستقبل الحياة البشريَّة في ظلّ التطوّرات التكنولوجيَّة
التكنولوجيا
ما زال هناك اعتقاد بأن الجدل حول خطورة الذكاء الاصطناعي مكمنه الرئيسي عدم قدرة البشر على استيعاب التداعيات الناجمة عن هذه التقنيات، فوتيرة تقدّمها تسير بسرعة عالية، وتطبيقاتها تدخل تقريباً في كافة مجالات الحياة، الأمر الذي دفع بعض الباحثين لتشبيه ثورة الذكاء الاصطناعي بثورة الكهرباء التي كان لها تأثير على كافة أشكال الحياة.
ومن هنا جاءت أهميَّة كتاب “الذكاء الاصطناعي: مستقبل الحياة البشريَّة في ظلّ التطوّرات التكنولوجيَّة” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، للدكتور إيهاب خليفة، والذي يقدِّم رؤية لما قد تكون عليه شكل الحياة البشريَّة في المستقبل القريب، تلك الحياة التي سوف تسيطر عليها التقنيات الذكيَّة بصورة رئيسيَّة، وتصبح نظم الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء والتقنيات الذكيَّة الملمح الرئيسي لكافة الأنشطة البشريَّة، فتصبح المدن والمجتمعات “ذكيَّة” بحكم التطوّر التكنولوجي.
ويتكوَّن هذا الكتاب من ثلاثة فصول رئيسيَّة، يناقش الفصل الأول مفهوم الذكاء الاصطناعي من حيث التعريف والأبعاد ومراحل التطوّر والتطبيقات، حيث يشير الكاتب إلى أنَّ عمليَّة تطوير الذكاء الاصطناعي قد مرَّت بأربع مراحل رئيسيَّة تمثِّل دورة حياة الذكاء الاصطناعي، تبدأ من مرحلة فهم الأشياء ثم خلق علاقات بينها ثم إدراك كامل البيئة المحيطة به ثم الاستقلال الكامل واتّخاذ القرار بصورة منفرة، حتى نصل إلى موجة اعتبرها خامسة يتفوّق فيها الذكاء الاصطناعي على قدرات البشر.
كما يتطرَّق هذا الفصل أيضاً إلى الصراع الدولي حول الذكاء الاصطناعي، خاصة بين الصين والولايات المتّحدة الأمريكيَّة، فإدراكاً لأهميَّة الذكاء الاصطناعي أطلقت الصين استراتيجيَّة شاملة في يوليو 2017 تتناول بالتحديد الأهداف المرجو تحقيقها في مجال الذكاء الاصطناعي والتي تشمل رقائق معالجة الشبكة العصبيَّة الاصطناعيَّة، والروبوتات الذكيَّة، والمركبات الآليَّة، والتشخيص الطبي الذكي، والطائرات بدون طيّار ذكي، والترجمة الآليَّة، وفي نوفمبر 2017 أعلن وزير العلوم والتكنولوجيَّة الصيني أنه شكَّل ما سماه “فريق الأحلام” من كبرى الشركات التكنولوجيَّة الصينيَّة (Baidu, Alibaba, Tencent) لقيادة الدولة في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد بدأت هذه الشركات بالفعل في إنشاء منصَّات مفتوحة المصدر لجمع أكبر قدر من المعلومات التي يمكن توظيفها في تعلُّم الآلات، حيث تخصِّص شركة علي بابا أكثر من 15 مليار دولار لعمليات البحث والتطوير وتوسع شركة هاواوي من عمليات الاستثمار في الجيل الخامس من الإنترنت.
هذا الاهتمام الصيني الكبير بالذكاء الاصطناعي جعل الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة تفرض قيوداً على كبرى شركاتها العاملة في مجال تكنولوجيَّة المعلومات، إدراكاً منها لخطورة نظم الذكاء الاصطناعي ودورها الذي يدخل في كافة تفاصيل الحياة البشريَّة، كما دعي وزير الدفاع الأمريكي إلى مزيد من الانفاق في مجال الذكاء الاصطناعي خشية الطموح الصيني، بما في ذلك المشروعات التي تعمل عليها وحدة الابتكار التجريبيَّة التابعة لوزارة الدفاع، وطالب الحكومة الأمريكيَّة بتدعيم علاقاتها مع الشركات التكنولوجيَّة خاصَّة تلك التي تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي، بل أصدرت الإدارة الأمريكيَّة عدة قرارات تُقيِّد استيراد أي أجهزة من هواوي أو zte وتمنع التعامل مع أي متعاقد خارجي لها تعاملات مع هذه الشركات خشية التعرّض للاختراق الصيني وتهديد الأمن القومي الأمريكي.
ويتناول الفصل الثاني من الكتاب شكل الحياة البشريَّة داخل المدينة الذكيَّة، تلك المدينة التي تسيطر عليها نظم الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء وغيرها من أشكال التقدم التكنولوجي، فيشير الكاتب إلى تعدد الأسباب التي تدفع الدول إلى تبني نماذج المدن الذكيَّة، أهمها محاولة الاستفادة من التقنيات الذكيَّة ومكتسبات الثورة الصناعيَّة الرابعة، والتغلُّب على المشكلات التقليديَّة التي تواجه المدن الكبرى، يضاف إلى ذلك أسباب أخرى متعلِّقة بالرغبة في زيادة معدّلات التنمية الاقتصاديَّة وتحسين جودة الحياة البشريَّة ومواجهة المخاطر والتهديدات الأمنيَّة فيها.
ويضيف الكاتب أنَّ أنواع المدن الذكيَّة تختلف حسب أربعة عناصر رئيسيَّة، يتمثَّل النوع الأول في التكنولوجيَّة المستخدمة والتي قد تكون تكنولوجيَّة مغلقة المصدر، لا يستطيع تطويرها إلا الشركة التي قامت بابتكارها، أو مفتوحة المصدر، يمكن لأي مطوّر أو مبرمج العمل عليها وتطويرها، أما النوع الثاني فيكون حسب الفواعل المساهمين في عمليَّة بناء المدينة سواء كان القطاع الخاص منفرداً أو بالتعاون مع المجتمع المدني في إطار استراتيجيَّة حكوميَّة، والنوع الثالث القطاع الذي تخدمه المدينة سواء كان قطاع فرعي أو جميع الأفراد والقطاعات بالدولة، وأخيراً درجة حداثة المدينة نفسها، فهناك مدن لم تكون موجودة من الأساس يتمّ بنائها منذ البداية لتكون ذكيَّة وهناك مدن قديمة يتمّ تحويلها إلى مدن ذكيَّة.
كما يتطرَّق الفصل الثاني أيضاً إلى التهديدات قد تكدّر صفو الحياة داخل هذه المدن الذكيَّة مثل تهديد البنيَّة التحتيَّة للمدينة الذكيَّة وخدماتها الحكوميَّة عبر الهجمات السيبرانيَّة، أو التجسّس على الهيئات والمؤسّسات والأفراد وشنّ حروب سيبرانيَّة والصراعات للاستحواذ على الفضاء الإلكتروني وبسط السيطرة عليه لأغراض المراقبة والتجسّس وتهديد التجارة الإلكترونيَّة والقطاع الاقتصادي للدولة، وغيرها من التهديدات التي يتناولها الكتاب.
ومن ناحية أخرى يرى الكاتب من خلال الفصل الثالث لهذا الكاتب أنَّ العالم على أعتاب مرحلة جديدة من التاريخ البشري، حيث ينتقل من مرحلة مجتمع المعلومات إلى مجتمع ما بعد المعلومات، أو مجتمع الذكاء الفائق، أو مجتمع هيمنة الآلات، أو مجتمع الذكاء الاصطناعي، جميعها مسمّيات تحاول وصف ما سيكون عليه شكل الحياة البشريَّة خلال السنوات القليلة القادمة.
هذا المجتمع الخامس Fifth Society، أو “مجتمع ما بعد المعلومات”، يأتي بعد أربعة أجيال رئيسيَّة مرَّت بها الإنسانيَّة، وهي: مجتمعات الصيد والزراعة والصناعة والمعلومات، وأخيراً المجتمع الخامس أو “مجتمع ما بعد المعلومات”، ويمكن تعريفه بأنه “ذلك المجتمع الذي تتحوَّل فيه المعلومة إلى وظيفة في حدِّ ذاتها، حيث تندمج فيه المعلومة والآلة مع عقل الإنسان، وبمجرَّد أن يفكِّر الإنسان في الشيء تقوم الآلة بتنفيذه عوضاً عنه، بل قد تقوم الآلة بالفعل بناء على توقّعها لاحتياجات الإنسان، أي حتى قبل أن يفكِّر فيها، وذلك من خلال دراستها لسلوكه وقدرتها على التوقّع باحتياجاته”، ويُعدّ الإنترنت أو الفضاء الإلكتروني أو النطاق الخامس Fifth domain هو العمود الفقري لهذا المجتمع، فبعد الأرض والبحر والجو والفضاء الخارجي، أصبح الفضاء الإلكتروني هو خامس الميادين التي تسعى البشريَّة لاستغلالها.
وعلى سبيل المثال، فبدلاً من أن يستخدم الفرد خرائط جوجل مثلاً للذهاب إلى مقصده كما هو الحال في مجتمع المعلومات، ستقوم السيارة ذاتيَّة القيادة أو الطائرات المسيّرة بدون طيار بذلك في مجتمع ما بعد المعلومات، وبدلاً من إعطاء أوامر للربوتات للقيام ببعض الوظائف والمهام، فإنها سوف تقوم بصورة منفردة بتحليل المعلومات من المجسّات وأجهزة الاستشعارات الموجودة في كل مكان وتتّخذ القرار بصورة ذاتيَّة، وستقدّم تقنيات إنترنت الأشياء خدمات للبشر تسبق احتياجاتهم وتوقّعاتهم، وتصبح نظم الإدارة لامركزيَّة بصورة كبيرة بفضل تقنيات البلوك تشين.
*المصدر: التنويري.