الثقافة؛ قيود العرض والطلب
تُجْبِرُنَا الحاجة دائماً إلى تعريفات اصطلاحيَّة لمتعلّقات الثقافة ومحمولاتها، كلما أردنا أن نستكشف لماذا تتغيَّر الثقافات. وعند محاولة تقديم تعريف للثقافة والقيم الآن، تنهار العديد من المكوّنات، التي رسَّخت، بين قيود العرض والطلب، حتى يُخَيَّل لنا أنه قد لا تكون هناك علاقة بينها والمعنى الوجداني. فربما يكون هناك تشاؤم من مجرد المحاولة يصعب تخفيفه في ظلِّ طغيان السوق. وبهذا الإقرار، يمكن فقط أن نُجازف بإعطاء وصف مؤقَّت للثقافة، لأنَّنا تحت ضغط التوصّل إلى إجابات على ما الذي ينبغي أن تكون عليه هذه الثقافة، وكيف أن فكرتها ستكون ملائمة للزمان والمكان.
فالثقافة في وصفها العام تشمل المنتجات الثقافيَّة ذات القيمة الجماليَّة، التي يحترمها المجتمع جماعياً كالفن، وتُمثِّل قاسماً مشتركاً للمعرفة والتقاليد الواسعة النطاق، أي أنها ثقافة تبدأ عندما يتمّ تخفيف القوَّة المطلقة للمادَّة، وعندما يكون الإبداع قد شكل ردّاً على المادِّي بالمعنوي، لأن المعرفة المستوحاة من الإبداع تمثِّل واجباً معنوياً أخلاقياً. فإذا كان أحد لا يميِّز بين المادِّي والمعنوي، قد لا يستطيع فهم كيف يمكن فكّ الاشتباك بين الثقافة وبين عقبات تدخلات السوق في عمليَّة التخليق الفنّي المستمرَّة، والمشاركة الإبداعيَّة المستحقَّة في عالم يتعولم.
إن هذه المساهمة المقتضبة تَتَقَصَّد استكشاف التغيُّر الثقافي في سياق التسليع الاقتصادي الجاري حالياً، وذلك بهدف الإطلالة على الدور، الذي يلعبه السوق في التحكّم في العرض والطلب الثقافي، وتأثيره على الابتكار النظري والقيمة الأخلاقيَّة الأوسع والمسؤوليَّة الإبداعيَّة، مع استصحاب تأثير كبار المفكّرين في تعزيز تصوّر أكثر دقَّة للقيمة المعنويَّة. فهل يشجع اقتصاد السوق الموسيقى والأدب والفنون البصريَّة، أو يثبطها؟ هل تساعد القوى الاقتصاديَّة للعرض والطلب، أو تضر بالإبداع؟ أم أننا سنصل إلى حالة التوازن الفكري بين المادِّي والمعنوي ونُشجِّع موقفاً أكثر إيجابيَّة تجاه تسويق الثقافة، التي نربطها بالحداثة؟
والانطباق العام للإجابة على منطوق هذه الأسئلة، التي نجتهد في تحصيلها، يدعونا إلى وضع صِيَغٍ نظريَّة وتجريديَّة من خلال قراءة التطوّرات التاريخيَّة المُعَبِرَة عن الوضع الخاص. ونتيجة لذلك، ينبهنا هذا التصوّر لاختيار المجالات، التي تلغي الاختلافات والصراعات، والتي يمكن أن تساعد على إيصال المفاهيم، والتي نريد استيعابها، وتدعو إلى فهم نظريَّة الثقافة، كما تشكَّلت بسيرورة تطور الأحداث، وكيف تحرَّك المجتمع معها. وإذا قَبِلنا، بعد ذلك، حقيقة أنَّ اقتصاد السوق الرأسمالي هو إطار مؤسَّسي حيوي، علينا أن نتهيّأ لدعم عدد وافر من الرؤى الفنيَّة القائمة، وتوفير تدفّق مستمر ومُرْضٍ من الإبداعات الجديدة، ودعم عرض الثقافة الماديَّة، ومساعدة المستهلكين والفنانين على صقل الأذواق، وتوقير الحاضر من خلال التقاط أزهى صوره، وإنتاجها، ونشرها بثمن الطلب.
إن الحجَّة، التي استخدمها الفيلسوف الأمريكي مايكل سانديل في كتابه الموسوم “ما الذي لا يمكن شراؤه بالمال: الحدود الأخلاقيَّة للأسواق”، تقول إنَّ الاقتصاد لا يمكن فصله عن جذوره في الفلسفة الأخلاقيَّة، لكن يمكن تسليط الضوء عليه من جديد وفقاً لمواضعات القرن الحادي والعشرين. فقد جعلت التحولات هذه الحجَّة أكثر إلحاحاً وأهميَّة من أي وقت مضى، إذ تغيّر عالمنا نحو وِجْهَة السوق، وتوّسعت حدود الاقتصاد. وفي الوقت الذي تعزز فيه الشركات سيطرتها على الثقافة، فإننا لا نتوقَّع عكساً صريحاً للتسليع في المستقبل القريب. لذا، فإن ارتفاع ثمن قطعة أثريَّة دليل على نمو قوَّة الشركات العارضة، التي غالباً ما تكون في إطار استجابة سياسيَّة وإيديولوجيَّة لضغوط الأجور، وارتفاع النفقات الاجتماعيَّة، والإعلانات التجاريَّة، وزيادة ثقافة الاستهلاك، والأهميَّة المتزايدة للاستحواذ على المواد الثقافيَّة وأساليب الرفاهيَّة المستجدَّة.
ونحن هنا لا نعتزم تقديم ملخَّص لهذه الحجَّة، ولكن مجرد الإشارة إلى جانب واحد منها يمكن أن يكون مقنعاً بشكل خاص، لأنه يصف تأثير التسليع، الذي يُغيِّر طبيعة الثقافة والممارسات الاجتماعيَّة التي تحكمها، أي أنَّ خصائص الثقافة ستتغيَّر تبعاً لكيفيَّة تبادلها في الأسواق بثمن، أو تقديمها كقيمة معنويَّة، مثل الهديَّة، أو التبادل الودِّي، أو الإيثار، أو الحبّ، أو الشعور بالمسؤوليَّة، أو الولاء. وبالتالي، فإن قيمة سلعة ثقافيَّة ما ستعتمد على كيفيَّة تقديمها. وقد يكون لنفس السلعة قيمة واحدة إذا اشتريتها تجارياً، وآخر إذا أعطيتها كهديَّة لصديق.
على الرغم من أنه يبدو واضحاً جداً، أن الغالبيَّة العظمى من أهل الاقتصاد يتجاهلون هذا التأثير التجاري على الثقافة، فقد وجد بعض علماء النفس دليلاً على هذا التأثير، الذي لم يكن لم يكن مفاجئاً لهم، وإنما يُبْرِزُ كيف أن العرض والطلب السائد هو تأكيد لحالة خاصَّة جداً للنشاط الاقتصادي/ الثقافي، تتمّ عن طريق تبادل السوق. وهذه النظريَّة قد لا تصمد إذا تعلَّق الأمر بأشكال النشاط الاقتصادي الأخرى. إذ إن النظريَّة العامَّة الحقيقيَّة للسلوك الاقتصادي للبشر يجب أن تعترف وتتناول هذه الجوانب من علم النفس البشري والفلسفة الأخلاقيَّة، التي تؤدي إلى تأثير التسويق الثقافي، وتقع ضمن نظريَّة الاقتصاد الجزئي القياسيَّة للاختيار والتبادل.
لقد جلبت السنوات الأخيرة هذا النوع من النقاش إلى المقدّمة، لأسباب لا علاقة لها بالجوانب المعنويَّة للثقافة. لأنه إذا كان هذا الجانب عن الثقافة موجوداً، يمكن التساؤل: هل بقيت هناك أيَّة قيم للثقافة؟ وهل هناك محتويات دقيقة عن الجانب الأخلاقي، الذي نُريد أن نغرسه عبرها؟ فالشعور بالفراغ سيكون نتيجة لازمة لفقدان القيم. ومع ازدياد التسليع، فمن المرجَّح أن يزداد الانزعاج العام، وكذلك الدعم السياسي لتقييد التسويق المادِّي للمنتج المعنوي، بما يضمن للثقافة رحابتها بأنظمة تحصينيَّة تحرّر للإبداع.
_______
عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة
الأربعاء 11/10/2017
*المصدر: التنويري.