اجتماعالمقالات

التخلُّف الاجتماعي؛ الدلالات والمظاهر

الإنسان المقهور

(رؤية تحليلية – نقدية)

برز مصطلح التخلف إلى الساحة السياسية والأكاديمية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث ذاع استخدامه وكثرت الكتابات حوله في مطلع عقد خمسينيات القرن العشرين، لتُنجز خلال خمس عشرة سنة آلاف المقالات والأبحاث، التي كتبها علماء الاجتماع، السياسة، القانون، التاريخ، الجغرافيا، وعلماء اللسانيات، وعلماء الانثروبولوجيا، وعلماء النفس، لدرجة يصعب فيها على الباحث توضيح نظرية التخلف وتعريفه، ويرجع ذلك إلى تعدد الأطر النظرية والمنهجية للذين حاولوا بحث هذه المسألة رغم أهمية إسهامهم العلمية.

يمكن تعريف التخلف الاجتماعي على أنها حالة من عدم قدرة الدول على إدارة شؤونها الخاصة بناءً على هدف أو رؤية ما، كما ويطلق مصطلح التخلف الاجتماعي أو الارتداد الاجتماعي على كلٍ من الفرد والمجتمع، إذ يضع الفرد في قالب اجتماعي يسهم في تحديد فرصه في الحياة، ويؤثر على تطوره وتقدمه. كما ويرتبط التخلف الاجتماعي ارتباطاً وثيقاً في الوضع الاقتصادي والزمني للفرد والمجتمع، إذ لا يمكن فصله، بسبب فشل تطبيق النظريات الاقتصادية على مستوى الدول، مما تسبب في تبعية الدول اقتصادياً، وهذا يعني بقاءها متخلفةً عن الدول المُتبعة.

يذهب مصطفى حجازي من خلال كتابه الشهير: التخلف الاجتماعي (مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)،  أن التخلف ليس فقط الكلمة التي تطرح أكبر قضية تواجهها البشرية في القرن الحالي، أي تحدي النهوض بثلاثة أرباع المجتمعات الإنسانية كي تلحق بركب بلدان العالم الصناعي المتقدم.

ويعتقد أن التخلف لم يعد من الممكن اعتباره مشكلة اقتصادية محضة مرتبطة بوضعية البلدان النامية، خارج إطار الزمان والمكان والدليل على ذلك أن بلدان النامية التي حصلت على استقلالها أخفقت بالخروج من وضعية التخلف، حيث كان يعتقد معظم الباحثين والمفكرين أنه يكفي تلك البلدان الحصول على رؤوس الأموال الكافية والأطر الفنية الملائمة والإدارة التقنية كي تنطلق في ركب التنمية. وهذا يعني فشل إدارة الاقتصاد لتلك البلدان بنفس الأساليب التي نجحت في البلدان الصناعية، حيث ظلت تلك المحاولات في أحسن الحالات جزراً متقدمة في محيط من الجمود والبؤس، عاجزة تماماً عن تحريك المجتمع بأكمله. حيث أدى فشل الدراسات الاقتصادية لفهم مشكلة التخلف، التي تعاني منها بلدان العالم النامي إلى قيام العديد من الدراسات والأبحاث المستفيضة حول موضوع التخلف والتنمية لفهم أوضاع تلك البلدان وخصوصيتها لينبثق على الساحة الأكاديمية تخصص علم اجتماع التخلف، لكن الإنسان المتخلف لم يحظ بالاهتمام نفسه الذي وجه إلى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

يتجسد التخلف على المستوى الإنساني كنمط وجود مميز، له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية النوعية. فمنذ أن يلد الإنسان في مجتمع متخلف يصبح تبعاً لبنية اجتماعية معينة، وقوة فاعلة ومؤثرة فيها، فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها، بمقاومة تغييرها، نظراً لارتباطها ببنيته النفسية. إن تجاهل هذه الحقيقة أوقع علماء التنمية ومن قبلهم القادة السياسيون الذين يقررون عمليات التغيير الاجتماعي في مأزق أدى لهدر الكثير من الأموال، إذ انطلقوا في مشاريع تنموية طنانة ذات بريق ووجاهة قائمة بالأساس على دراسات جزئية لم تتجاوز السطح كي تنفذ إلى دينامية البنية المتخلفة من جهة أو إلى التكوين النفسي والذهني للإنسان المتخلف من جهة أخرى.

وهكذا نجد أن إنسان هذه المجتمعات لم ينظر إليه باعتباره عنصراً أساسياً ومحورياً قي أي خطة تنموية، فالتنمية مهما كان ميدانها، تمس تغير الإنسان ونظرته إلى الأمور في المقام الأول. إذ لابد من وضع الأمور في إطارها البشري الصحيح وأخذ خصائص الفئة السكانية التي يراد تطوير نمط حياتها بعين الاعتبار، وبالتالي يجب دراسة هذه الخصائص ومعرفة بنيتها وديناميتها.

– التخلف الاجتماعي: بعد فشل النظريات الاقتصادية في الارتقاء بالواقع الاقتصادي والاجتماعي إلى أفضل المستويات، نشأ علم اجتماع التخلف ليبحث في طبيعة النظام الطبقي الجامد، ودور الفرد في ذلك النظام الطبقي الذي اعتمد على تفضيلات ومميزات خاصةً به استبعدت من خلاله دور الفرد وأحلت محله النخبة السياسية الموروثة التي تحتل مكانة سياسية داخل النظام السياسي ليكون لها الأولوية في توزيع أي تركة لها على أفرادها معللةً ذلك من منطلق الشرعية الثورية التي جاءت بها إلى الحكم ليكون نتائجها وخيمة على الأفراد والجماعات وباقي أفراد المجتمع الواحد.

فضلاً عن انتشار الأفكار السلبية والعادات والتقاليد ذات البعد الرجعي، التي أثرت بشكلٍ سلبيٍ على المنظومة الاجتماعية والاقتصادية معاً، وكان من نتائجها انتشار الفقر، وارتفاع في معدلات البطالة، وهجرة إلى خارج الوطن بحثاً عن وظيفة أو عمل، وعمليات الاستيراد المستمرة من الخارج، والتي أوقعت الدولة في حبال المديونية الغارقة، مما أدى إلى التبعية الاقتصادية للطرف الآخر بشكل مطلق، كما أن التبعية امتدت إلى مجالات أخرى لنكون تابعين لهم اجتماعياً في أدق التفاصيل خاصةً في المظهر الشخصي، وطريقة اللباس، والكلام وغيرهما من المشكلات الاجتماعية نتيجة للانبهار المطلق بثقافتهم واقتصادهم دون التفكير السوي هل يناسبنا تطبيق تلك الأنماط أو غيرها على واقعنا العربي والإسلامي أم لا؟

إن تعريفنا للتخلف الاجتماعي لن يكون بمعزل عن النظرة لمفهوم التخلف الاقتصادي، حيث إن تخلف الشعوب والأمم وسيرها في طريق مخالفٍ للطريق الذي سارت به الدول والبلدان المتقدمة هو نتيجة منطقية لفشل النظريات الاقتصادية في العالم العربي والإسلامي مجتمعة وإن توافر عالم الشخوص، إلا أن عالم الأفكار غير موجود مهمش لا يلتفت إليه أحد ومن هنا ينشأ الجهل، والفقر، والبطالة، والأمية، والانفجار السكاني الهائل في أوساط أبناء المجتمع العربي والإسلامي وانتقالهم للعيش في المدن على حساب العيش في الأرياف فيما تعرف بالهجرة الداخلية.

– معايير قياس التخلف الاجتماعي: من المعروف أن الدراسات العلمية والتجارب الإنسانية ترى أن التخلف الاجتماعي يتحدد عبر عدة معايير: كمعيار وضعية ومستوى التعليم في المجتمع، ومعيار مستوى تغذية أفراده، ثم معيار حالة الفقر ومستوياته، ومعيار الحالة الصحية لأفراد المجتمع، وهناك معيار يضعه العلم في أولوية المعايير الدالة على التخلف الاجتماعي من عدمه، ويكتسب هذا المعيار أهمية خاصة، وهو بالتحديد متوسط دخل الفرد في هذا المجتمع في العام الواحد.

إذن للمسألة منظور آخر من المهم التوقف عنده، فمثل هذه المعايير قد تبني جانباً من جوانب التمدن والتحضر بوصفه مصطلحاً نقيضاً للتخلف، ولكنها في الوقت نفسه لا تلغي التخلف الاجتماعي ولا وجوده، ليصبح انتشار العادات والتقاليد السلوكيات الاجتماعية السلبية، وضعف التعليم وتراجع مستوى مخرجاته، وما ينعكس عن ضعفه من ثقافة مجتمعية ركيكة ومتضعضعة وباهتة هو المؤشر الأكثر دلالة على وجود تخلف.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: هل هذه المعايير دقيقة في مقياسها، وهل هي بالفعل الدليل القاطع على وجود تخلف اجتماعي؟ لا سيما في المعيار الأخير الذي حُظِيَ بأهمية خاصة لدى الباحثين، ربما لأن الاقتصاد هو عصب الحياة وركيزتها الأساسية، وهو أمر قد نتفق عليه مع أصحاب هذه النظريات، ولكننا بالمقابل نجد أن بعض المجتمعات العربية والإسلامية يحظى أفرادها بمتوسط دخل سنوي جيد بيد أنها لا تسير باتجاه حالة صحية مُرضية نتيجة الاختلال في معيار التغذية بين مفهومها الكمي والصحي، كنتيجة طبيعية لوفرة سبل المعيشة وتنوعها.

وفي النهاية يمكننا قياس التخلف الاجتماعي من خلال الصور العديدة التي تنتجها سلوكيات أفراد المجتمع ومنها: عدم التقيد بأنظمة المرور، وعدم احترام الأنظمة والالتزام بالقوانين، وعدم العناية بالجسد ومظهره أو بالزي وأناقته، ومنها أيضاً عدم احترام أدبيات الحوار والنقاش، أو إقصاء الآخر وعدم القناعة بأهمية التفكير الجدلي، بالإضافة تدني نظرة المجتمع لمكانة المرأة وعدم تمكينها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأخيراً العنف والعدوانية بشتى مظاهرها. هذه المظاهر التي تبدو بسيطة هي لب المشكلة، بل هي الصورة الحقيقية لما يمكننا أن نطلق عليه تخلفاً اجتماعياً حقيقياً، ومثل هذه المظاهر نتاج طبيعي ومباشر لقصور وعي الإنسان بقيمته، تلك التي لا يمكن إدراكها سوى بتنمية مستوى العلم ومستوى الثقافة ومستوى التنوير.

– المنظور السيكولوجي للتخلف الاجتماعي: في هذا السياق سنحاول رسم صورة سيكولوجية حيَّة، متكاملة وشاملة للوجود المتخلف. إذ أن البنية الاجتماعية المتخلفة التي تتخذ من المستوى المعاش نمطاً من الوجود، من النظرة إليه وإلى الذات، هي التي تحكم في النهاية السلوك الفردي. هذا النمط يشكل البعد الذاتي من مسألة التخلف، الذي يكمل البعد الموضوعي ويتفاعل معه جدلياً، في حالة من تبادل التأثير والتحديد.

إن القيمة الأساسية التي نحاول من خلالها تحديد المنظور السيكولوجي لمسألة التخلف تكمن في رصد خصائص التخلف النفسية وآلياته الدفاعية، وأسلوب توجه أفراد المجتمع ونظرتهم إلى الكون، خصوصاً في النسيج العلائقي الذي ينغرس فيه أفراد المجتمع.

تنحصر الخصائص الذهنية المنهجية لعقلية الإنسان المتخلف في اضطراب منهجية التفكير والسطحية والاعتباطية في تناول القضايا ومناقشتها، بالإضافة إلى قصور التفكير الجدلي وتطبيق مبدأ العزل والفصل، أي أن سبب واحد أو عدة أسباب ستؤدي إلى نتيجة واحدة حتمية، وغياب القدرة على ربط الظواهر بالواقع وردها إلى أصولها التاريخية مما يخلق حالة من التصلب والجمود الفكري. وفيما يتعلق بالخصائص الذهنية الانفعالية، فإنها تتلخص بقول الوجود المتخلف مُعاش وجدانياً أكثر مما هو مصوغ ومنظم عقلياً. أما عن أسباب تخلف هذه العقلية نجد  أن للتعليم اليد العليا في ذلك بلا شك، لأنه تعليم يعتمد أساساً على التلقين والقهر وتسلط المعلم، وهو تعليم منفصل عن الواقع بسبب انفصال لغة العلم عن لغة الحياة، ولذلك لابد من تعريب العلوم المضبوطة وتدريسها باللغة الأم حتى تتحول من خلال التداول اليومي إلى ثقافة ومنهج حياة.

يتخلص وجود الإنسان المتخلف في وضعية مأزقية يحاول في سلوكه وتوجهاته وقيمه وموافقه مجابهتها، ومحاولة السيطرة عليها بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه، فهذه الوضعية المأزقية هي أساس وضعية القهر الذي تفرضه الطبيعة على الإنسان المتخلف لتمارس عليه سيطرتها واعتباطها، بالإضافة إلى استبداد أصحاب السلطة والنفوذ الذين يفرضون عليه أيضاً السيطرة والخضوع والرضوخ. ولذلك فإن سيكولوجية التخلف من الناحية الإنسانية تبدو لنا كأساس لسيكولوجية الإنسان المقهور، حيث تنبثق علاقات القهر والتسلط من ناحية، ورد الفعل عليها من رضوخ أو تمرد من ناحية ثانية، في كل ثنايا وجود الإنسان المتخلف. كما نجد أن تكوين الإنسان المتخلف النفسي، وتركيبه الذهني، وحياته اللا واعية، محكومة كلها بالاعتباط  والقهر وما يولدانه من قلق جذري، وانعدام الشعور بالأمن والإحساس بالعجز أمام المصير والمستقبل. ولا يقف الإنسان المقهور مكتوف اليدين إزاء هذه الوضعية لكونها تزلزل توازنه الوجودي، بل يحاول أن يحابهها بأساليب دفاعية جديدة، متعارضة جدلياً أو متكاملة في تعارضها، حيث تطغى في كل مرحلة من تاريخه نماذج سائدة منها، تتغير تبعاً لتغير ظروفه، والكثير من معتقدات الإنسان المتخلف وانتماءاته وممارساته، تبدو في النهاية كمحاولات داعية للسيطرة على وضعيته المأزقية وإيجاد حلول معينة لها. تتخذ هذه الحلول أشكالاً فاترة أو نشطة، تشده إلى الواء أو تدفع به إلى الأمام، تميل به إلى الاستكانة والانسحاب، أو  تدفعه إلى المجابهة والتصدي، ولمنها تشكل دوماً نماذج من الاستجابات الممكنة، في ظروف تاريخية وعلائقية محددة لما يحيط بحياته من ضغوط.

بذلك يصبح عالم التخلف في هو عالم فقدان الكرامة والقيمة الإنسانية، بحيث يتحول فيه الإنسان إلى شيء ووسيلة، ومن ثم فهو مرتبط بشكل حتمي بالقهر الذي يلقاه المرء في مجتمعه. بمعنى آخر، أي أن التخلف الاجتماعي يصبح مرهوناً بقدر القهر الذي يلاقيه الفرد في مجتمعه، وكلما كان قدر هذه الحالة كبيراً – على سبيل المثال – كان التخلف على القدر الذي يوازيها. وهكذا يعيش الإنسان المتخلف  بين قهرين، قهر الطبيعة القاسية التي لا يجد سبيلاً للتغلب عليها وقهر السيد المتسلط الذي لا مناص من الرضوخ له، إنه إنسان يعيش تحت القهر الطبيعي والقهر البشري، وبقدر ما تتضخم أنا السيد وينهار الرباط الإنساني بينه وبين المسود، يصبح الأول أسير ذاته، وينحدر الثاني إلى أدنى سلم الإنسانية، وتصبح علاقة التسلط مضافة ومتفاعلة مع قسوة الطبيعة واعتباطها.

وهكذا يُنتج القهر الذي يتعرض له الإنسان المتخلف إنساناً مختل التوازن، إلا أن اختلال هذا التوازن الوجودي يتعادل من خلال جانبين: يتعلق الأول بمرحلة التمرد التي تهدف إلى تغيير الأوضاع من الخارج، لتتلاءم مع حاجات المرء الحيوية وتُحقق له ذاته، وهو الحل الأكثر فاعلية والأضمن على المدى البعيد، غير أنه ليس ممكناً في البداية، مما يؤدي إلى لجوء الإنسان المقهور إلى آليات دفاعية تهدف للتأقلم لا التغيير، وتكفل تحقيق الذات بشكل ظاهري، إلا أن سلبيتها تُعيد التوتر إلى الارتفاع مرة أخرى، مما يجعل المرحلة الأخيرة ضرورة بحلولها الخارجية.

أما الجانب الثاني يتجسد من خلال الانكفاء على الذات حيث يعتبر من الأساليب الدفاعية الشائعة في المجتمعات المتخلفة، حيث ينسحب المرء من واقعه لشعوره بالإحباط وانعدام القيمة، فيحد من طموحاته بتقبل مصيره كما هو، أو بإيهام نفسه بذلك، غارقاً في بؤسه الذي يحد من مجالات نشاطه، فلا يدير ظهره للمتسلط وحسب، بل عن كل ما يمثله من نمط حياة وقيم وأدوات، ثم يهرب إلى الماضي المجيد ويتماهى مع أبطال القصص الشعبية وتاريخهم الحماسي، غير أن رجعته إليهم لا تكون رجعة مَنْ يريد الإلهام وإنما من يبتغي ملاذا يحتمي به من الحاضر الذي يقهره. على النقيض من ذلك، يأتي التماهي مع المتسلط كأثر مختلف ومخيف للقهر الاجتماعي، إذ يتماهى المقهور مع أحكام المتسلط ليتشبه بعدوانيته ونمط حياته، ويكون التماهي حينها أكبر من مجرد محاكاة، بل يصبح عملية لا واعية تفوق الإرادة وتتلخّص بتمثل وجود الآخر كلياً أو جزئياً، فيتخذ المقهور ماهية المتسلط، وهويته، وإيماءاته، وتعابيره، وأدواته، ليكتسب وهم الاعتبار الذاتي، ويصرف العدوانية إلى الخارج بدلا من ذاته. وفي النهاية يمكننا تلخيص الأساليب الدفاعية للإنسان المقهور، بما يلي:

1- الانكفاء على الذات: يسعى الإنسان المقهور للتغلب على الطبيعة والمتسلط من خلال التقوقع والانسحاب بدلاً من المواجهة، أي الرضوخ للأمر الواقع، والحد من الطموحات ويستخدم لتحقيق هذا الانكفاء ثلاثة وسائل هي: التمسك بالتقليد الذي يجنبه خطر المجهول، بالإضافة إلى الاعتزاز بالماضي المجيد عندما يفشل الإنسان المتخلف على كل صعيد حياتي بشكل يمس الاعتبار الذاتي، مما يدفع بصاحبه أحياناً إذا أوصدت أمامه أبواب المستقبل إلى الاحتماء بماضيه وخصوصاً بتلك الفترة الأكثر إشراقاً فيه وكلهم يجد في تلك العودة تعزيةً وملاذاً. الذوبان في الجماعة حيث يستعيض عن عجزه الذاتي من خلال الاحتماء بالجماعة والذوبان فيها. الوضعية الاتكالية فالإنسان المقهور الذي لم يتمكن من التصدي لقدره ومجابهة تحدياته يلوذ بقوى تحميه ويجد نفسه في وضعية التبعية على مختلف الأصعدة، فهو مولع بأبطال القصص الشعبية، شديد التعلق بالأولياء ذوي الكرامات، ذو تصور خرافي للزعيم المنقذ الذي يتمتع بالقوة والجبروت والخير المطلق.

2- التماهي بالمتسلط: من خلال تماهي المقهور بأحكام المتسلط أولاً، أي حط المقهور من شأنه الذاتي وقيمة جماعته وإعلاء شأن المتسلط من جهة أخرى، وهي علاقة سادومازوشية.

3- السيطرة الخرافية على المصير: فإذا اطبقت السيطرة المادية على المصير حاول المرء توسل الأوهام يعلل بها النفس ويجمل بها الواقع ويستعين بتصوراتها على تحمل أعبائه، ويتناسب انتشار الخرافة والتفكير السحري في وسط ما مع شدة القهر والحرمان وتضخم الإحساس بالعجز وقلّة الحيلة وانعدام الوسيلة وتتضمن السيطرة على المصير ما يلي:

أ- السيطرة على الحاضر: حيث يتوسل رموزاً للخير مثل الأولياء ومقاماتهم وكراماتهم، يتقرب منها بالأدعية والنذور والقرابين، ويخشى بعض رموز الشر مثل الجن والشياطين والعفاريت ويتجنب أذاها من خلال السحر والتعاويذ، وهذه الرموز تشكل وسائلاً لتبرئة النفس والتحلل من المسؤولية من خلال إسقاط الأخطاء والزلات على هذه الكائنات الغيبية.

ب- السيطرة على المستقبل: من خلال اللجوء إلى التطير وتأويل الأحلام وقراءة الطالع والعرافة التي تكشف عن خير أو شر قادم فيستعد له الإنسان، بالإضافة إلى القدرية التي تحلل المقهور من عقدة الشعور بالذنب فكل مصيبة تحلّ به هي قدر لا يد له في رده أو التصرف إزاءه، وهذا هو الحل الوحيد للمأزق الحاصل نتيجة عجزه عن التحكم بمصيره.

4- توسل العنف: باعتباره وهو الحل لإعادة الاعتبار الذاتي المفقود، ومن مظاهر هذا العنف ما يلي: العنف المقنّع، الذي إما أن يرتد على الذات من خلال الإدانة الذاتية وتبخيسها، أو أن يكون موجهاً إلى الخارج بشكل غير مباشر من خلال الكسل والامتناع عن العمل وتدمير الممتلكات العامة. العنف الرمزي، يتجسد من خلال السلوك الجانح والخروج على القانون وعمليات السلب والاحتيال والقتل، وإن تفشي ظاهرة الجنوح في مجتمع ما يعتبر مؤشراً خطيراً على تأزم حالة العدوانية المتراكمة فيه. التوتر الوجودي والعلاقات الاضطهادية الفاشية، ويقصد بالتوتر الوجودي حالة تعبئة نفسية دائمة استعداداً للصراع تتجلى من خلال سرعة الغضب وتدهور الخطاب اللفظي نحو الشتائم والاشتباك أحياناً لأتفه الأسباب، أما العلاقات الاضطهادية الفاشية فيقصد بها تعصب الجماعات نحو ذاتها كمخرج من حالة التوتر الوجودي، فبدلاً من صراع أفراد الجماعة فيما بينهم يوجهون عدوانيّتهم نحو جماعات أخرى تُسقط عليها كل الآثام والأوزار وتصبح العقبة الأساسية أمام الوصول إلى الرفعة والمنعة وبالتالي لابد من القضاء عليها.

وهكذا يعتبر العنف هو الابن الشرعي لهذا التماهي، سواء أكان عدوانية مرتدة إلى الذات باللوم الدائم والتحقير المستمر لها، أو عدوانية خارجية بتخريب الممتلكات العامة، لإحساسهم بأنها تمثل رموز المتسلط ولا تنتمي إليهم، وهو ما يفضي في النهاية إلى مزيد من التسلط لإحكام السيطرة وفرض الرغبات التي تذهب في اتجاه الاستغلال.

– المنظور الاجتماعي للتخلف: إن تعقد المشكلات الاجتماعية داخل المجتمعات العربية والإسلامية وتفاقمها طيلة السنوات التي مضت كان وما زال بفعل المحكات السياسية والاقتصادية التي خلفتها الأنظمة السياسية الحاكمة ولعل أهمها: ( تبديد الثروات وسوء استغلالها، سوء استغلال الطاقة العاملة المتوافرة، اختلال البنى الاقتصادية، التبعية الاقتصادية، الاستبداد وانغلاق المجال السياسي ).

ساهمت هذه المحكات بصورةٍ أو بأخرى في تردي الوضع المعيشي وانتشار الفقر والبطالة والجهل، والتزايد الهائل في أعداد السكان مما أثر على مستواهم الفكري والثقافي فأصبح جل همهم تحصيل لقمة العيش وبناء مسكن يأويهم، فضلاً عن انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بفعل غياب العدالة الصحية وتأمين حياة صحية سليمة لكل أفراد المجتمع الواحد.

أما على صعيد البنية الاجتماعية للتخلف، هناك من عددّ بعض المحكات انطلاقاً من الربط بين التخلف والمجتمع التقليدي ولعل أهمها: ستكاتيكية العلوم يعني جمودها وبقاؤها على حالها بدون أي تغيير يطرأ عليها، نمطية العادات والتقاليد وتحكمها بالسلوك الاجتماعي واستبعادها للقانون، نظام اجتماعي جامد تحكمه الولاءات الطائفية والعرقية والمذهبية والحزبية، الانتقاص من المكانة الاجتماعية للإفراد واستثناء مبدأ الكفاءة الإنتاجية في تحديد المكانة، مما أدى إلى إنتاجية منخفضة جداً.

وأخيراً، لا يمكن لنا قراءة المفهوم الاجتماعي للتخلف بعيداً عن القراءة الموضوعية والدقيقة لمفهوم التنمية الشاملة، أي أن المفهومين يتقاطعان مع بعضهما البعض فهما عناصر تكميلية لا يمكن لأي عنصرٍ أن يستغني عن الآخر. ولهذا يجب أن يكون هناك إجراءات عملية لتجفيف منابع التخلف الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية حتى يتمكن من خلالها الأفراد بشتى تخصصاتهم وعلومهم وأفكارهم من تحقيق نهضة فكرية وعلمية تنهض بالواقع المجتمعي إلى أفضل المستويات، وهي كالآتي:

أ‌- النهوض بالواقع الاقتصادي على أساس استثمار الموارد والامكانيات وتوظيفها في خلق بنية اقتصادية يكون عنوانها العمل، وتحقيق الاكتفاء الذاتي وترسيخ قيم العمل المنتج.

ب‌- احترام الفرد، والعمل دوماً على تسهيل كافة الفرص والامكانيات والوسائل ليكون عاملاً مبدعاً منتجاً قادراً على خلق المزيد من الثقافات والعلوم التي تسعى إلى إحداث تغييراً ثقافياً بديلاً عن العادات والتقاليد السلبية.

ج- إنشاء العديد من البرامج التوعوية حول أهمية تنظيم النسل، وأن قيمة الإنسان ليست في كثرة إنتاجه الجنسي بقدر قدرته على الاهتمام بهم وتوفير عناصر السلامة والعيش الرغيد كتوفير التعليم والقدرة على علاجهم الصحي.

د- استبدال العادات والتقاليد السلبية الموروثة بالعلوم الصحيحة والتي تنشئ الأفراد على أساليب جديدة في التفكير والسلوك.

ه- تطوير المنظومة التعليمية والعناية بها على اعتبار أن التعليم هو السبيل الوحيد إلى التنمية الذاتية وهو طوق النجاة للمجتمعات للخروج من كماشة التخلف، والجهل، والتبعية. كما يؤدي التعليم إلى إطلاق العنان لشتى الفرص ليحد من أوجه اللامساواة وغياب العدالة الاجتماعية من خلال رفع مستوى الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، كما يسعى التعليم إلى حماية المجتمع من الإرهاب، حيث يتعرض الأفراد للأفكار الهدامة والغير سوية، وفي النهاية يعتبر التعليم حجر الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المستنيرة والمتسامحة والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة.

و- التمكين السياسي لجميع أفراد المجتمع من خلال ترسيخ مفاهيم المواطنة، والديمقراطية، والمشاركة السياسية، والتداول السلمي للسلطة باعتبارها أساس التعريف بالحقوق والواجبات لضمان الاستقرار والتقدم الاجتماعي، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان بعيداً عن العوامل والأسباب التي تؤدي إلى الاستبداد وتكريس التخلف والجهل بكافة أشكاله وأنماطه في الواقع الاجتماعي.

___________
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات