تعاود قضايا الإصلاح والمعرفة والتعليم والتربية، في خضم الخراب والقتل والأفكار المسمومة التي يعيشها معظم العالم الإسلامي اليوم، ويفرض طرحها في الحاضر الماثل، كما انطلقت في القرن الثامن عشر وتبلورت فيما ما يسمَّى بعصر النهضة في القرن التاسع عشر.
من نافلة القول إنه خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، برز خمسة مسلمين إصلاحيّين على وجه الخصوص، حيث عمدوا إلى صياغة موقف إيجابي للإسلام من العلم ونشر المعرفة، معتقدين أن الدنو من الطبيعة لا تقف دونه حواجز، وهم: سيد أحمد خان، سيد أمير علي في الهند، جمال الدين الأفغاني من إيران، نامق كمال في تركيّا، والشيخ محمد عبده (تلميذ الأفغاني) في مصر، ودفاع الخمسة كان عن العلوم وتدريسها وتطويرها، كما دافعوا عن عمليَّة اقتباس الذهنيَّة العلميَّة عند الغرب.
محمد عبده على وجه الخصوص كان طرازاً رفيعاً من المصلحين، وقد سبق زمانه ودافع عن حرّيَّة الإرادة الإنسانيَّة والمقاربة العلميَّة، وحاول إعادة الاعتبار للنزعة العقليَّة على النمط المعتزلي ليدخلها ضمن إطار السلفيَّة الإسلاميَّة من دون نجاح يذكر، إذ قام بإصلاح الإدارة وطرح الأفكار الجدّيَّة والرائدة في المؤسّسة وخارجها، لكنه لم يجر تحديثاً في مجال الفلسفة، ولم يكن رجل تربية بصورتها المعاصرة، فرغم كتابته “رسالة التوحيد” كان في الأساس ذا ثقافةٍ تقليديَّة. لا محمّد عبده ولا سيد خان ولا حتى المحدّثين المسلمين الأتراك التقليديّين أمثال جودت باشا ونامق كمال كانوا من مؤيّدي فكرة تعليم النساء، رغم أنهم جميعاً كانوا يناصرون فكرة تربية تقليديَّة ومنزليَّة.
تبعهم بعد ذلك الشاعر والفيلسوف محمد إقبال، في بنجاب الهند (باكستان) الذي أتى بأفكار جديدة وتنويريَّة، لكنّه لم يقم بصياغة فلسفة تربويَّة، كما لم يضع برنامجاً لتربية المسلمين. وكان شديد الانتقاد وقوي التعبير وحتى نافد الصبر إزاء أشكال التربية القائمة- السلفي والصوفي والحديث.
البدايات المتواضعة لانطلاق الأفكار والدعوة للعقل آنذاك لم تتعمّق أو تنتشر لإحداث ثورة فكريَّة وعقليَّة تنعكس ثقافيّاً في قيام نظام تعليمي تربوي حديث. أفكار تناغم الشكل وليس المحتوى.. أفكار خدشت السطح فحسب، لذا كانت متجانسة مع التراث، وبالتالي ما يسمّى بعصر النهضة كان بأفضل حال شكلاً من أشكال الماضي أو التراث.
ولعل الإصلاح الحقيقي كان بحاجةٍ ماسّة إلى تغيير المناهج التعليميَّة باعتباره الخطوة الأولى في مسار التغيير، إضافة إلى نشر المعرفة التنويريَّة باتّجاه تعميمها، ممّا يعود بالنفع على مساحة التفكير بغية تفاعلها، خاصّة إثر شيوع ظاهرة العنف والقتل والإرهاب والتكفير، إلى مستويات يصعب تصديقها حقاً، الأمر الذي نتج عنه كل هذه الصور المسيئة للإسلام والمسلمين.
المشروع الحقيقي الذي تحتاجه المنطقة بأسرها يتمثَّل بإصلاح التعليم، خاصّة الديني، وأن يكون ذلك الإصلاح عميقاً وجوهريّاً ليصل إلى متن المشكلة، ليغدو تالياً بمثابة انتفاضة تعمل على إرساء قواعد المساواة بين المواطنين وإعلاء المعرفة الحقَّة التي بإمكانها إنتاج أجيال من المتعلّمين تجمعهم خيمة المواطنة والانتماء والهويَّة الوطنيَّة والشعور بالمسؤوليَّة.. وتضع العقل في أولويّات مهامّها في بناء الإنسان.
*المصدر: التنويري.