تميز التفكير الديني في السودان بمساره النقدي والاجتهادي، وتجاوزه تقليد أفكار ومواقف وأدبيات الجماعات الإسلامية المعاصرة المختلفة. وهو ما نلمسه في اجتهادات حسن الترابي، ومراجعاته النقدية لأدبيات الإخوان، ومحاولته صياغة منظوراً بديلاً للحركة الإسلامية في السودان، وفي أطروحات محمود طه، وفكره الخلافي، الإشكالي، الخارج على الأنساق العقدية والفقهية الذائعة. أما محمد أبو القاسم حاج حمد فهو الأوضح تعبيراً عن الخط الاجتهادي والتجديدي السوداني؛ حيث استطاع أن يستوعب معطيات المعارف والعلوم الإنسانية، ويصوغ رؤيته للنصوص والتراث والواقع في ضوئها.
منهجيّة القرآن المعرفية:
حاول حاج حمد أن يطرح منهجاً معرفياً قرءانياً لاستيعاب المعرفة بشقيها الطبيعي والإنساني، واضعاً مسافة بينه وبين الكتابات التي تقارب أو تقارن بين الإسلام والعلم، فأسلمة العلوم عنده ليست مجرد إضافة عبارات دينية إلى مباحث العلوم المختلفة، بأن نستمد آيات قرآنية ملائمة لموضوعات العلم المقصود أسلمته. فالأسلمة ليست إضافة وإنما “إعادة صياغة منهجية ومعرفية” للعلوم وقوانينها، فأي محاولة لأسلمة هذه العلوم لا تستند إلى ضابط منهجي كلي ومعرفي بذات الوقت لن تؤدي إلا إلى تشويه الهدف من الأسلمة.
جدليّة الغيب والإنسان والطبيعة:
يرى أبو القاسم بأن القرآن بخلفيته الكونية ورسالته العالمية، كان له توجيه مغاير في بلورة البعد الأنطولوجي في الإنسان، فوضعه في إطار فلسفي جديد قوامه: جدلية الغيب، والإنسان، والطبيعة، التي تعيد ترتيب هذه المفاعيل في صيغة مطلقات متفاعلة ومتداخلة، لا استلاب فيها. ويأتي كتابه “جدلية الغيب والطبيعة والإنسان”، أو “العالمية الإسلامية الثانية”، محاولة جادة لفهم تداخل الغيب في حركة الكون وحركة الطبيعة دون استلاب حرية الإنسان. حيث يرى أبو القاسم بأنه منذ اللحظة التي وُجد فيها هذا العالم، وهو محكوم وفق جدلية ثابتة: “جدلية الغيب والطبيعة والإنسان”. وفي حين تعامل التراث اللاهوتي المسيحي مع تلك الجدلية بنسق غيبي أُحادي مثالي ألّه الإنسان وهمّش الطبيعة، مما أدى الى السقوط في إشكالية الغيب، والانتهاء الى الخرافات والأساطير. فإن الفلسفات الغربية الوضعية تعاطت مع تلك الجدلية بنظرة أُحادية أيضًا؛ ولكن بتعاملها مع الطبيعة بوصفها المرجع الأساسي لتفسير جميع الظواهر الكونية ومنها النفسية.
ويعتبر أبو القاسم بأن النسقين يُسقطان المنهج الكوني الذي يربط بين الأبعاد الثلاثة الذي يزن بهم العالم في جميع المستويات الوجودية للكون، ذلك البُعد الكوني الثالث: “جدل الغيب”، والذي لا ينفي جدل الطبيعة أو جدل الإنسان؛ فالثلاثة في تبادل وصيرورة دائمة. وعليه، فإن القرآن، من حيث هو كتاب مُطلق، ينبغي أن يتخذ منه مصدرًا لفهم كيفية تفاعل هذه الأبعاد الجدلية الثلاثة، أي علاقتنا به تكون (منهجية ومعرفية) لا عبادات ومعاملات.
ومن هنا، أكد أبو القاسم على ضرور فهم القرآن بالواقع، وفهم الواقع بالقرآن، وهو ما يتطلب رؤية ووعي منهجي ومعرفي لكليهما؛ أي أن الباحث أو المصلح إذا لم تتوفر لديه قدرات الفهم المعرفي لقضايا الواقع نفسه، فلن يكون لديه ما يطرحه علي القرآن أصلًا. الجمع بين القراءتين: (الغيب والطبيعة)، والتي رآها أبو القاسم متجلية في قصة العبد الصالح وتعليمه لموسى. وفي طلب الوحي من محمد في حراء؛ ليقرأ بالله خالقًا، وليقرأ مع الله مُعلمًا.
الحاكمية:
من أهمّ الإضافات النوعية التي أضافها أبو القاسم كتابه الذي حمل العنوان “الحاكمية”، وهو تفكيك للمنظور التقليدي عن الحاكمية، واستعادته كمفهوم لا يختص بالمعنى المباشر لتولي السلطان، ليتعدى إلى معنى أكثر تركيباً، ذو صلة بالمنظور المعرفي الجمعي، ليشير إلى أشكال الحاكمية المختلفة، بل وتعارضها فيما بينها، والانتقال من حاكمية الله المباشرة، إلى حاكمية الاستخلاف بنوعيها، إلى حاكمية الكتاب.
يرى محمّد أبو القاسم حاج حمد أنّ الحاكميّة كما صاغها المودودي ثمّ سيّد قطب تقود إلى عطالة الإنسان وسلبيّته وتوقع في مقولة الجبر. من هنا عمد إلى استنطاق القرآن حول الحاكميّة لينتهي إلى أنّ “طرح المقابلة بين حاكميّة الله وحاكميّة البشر أمر لا يستقيم فلسفيّاً وفق منهجيّة القرآن المعرفيّة، وذلك للفارق الجوهريّ بين الطّبيعتين”. ذلك أنّ مجال الحاكميّة الإلهيّة الوجود لا التّشريع، وهي خاصّة بالمرحلة اليهودية ولا علاقة للمسلمين بها. وهكذا، خلّص محمّد أبو القاسم حاج حمد مفهوم الحاكميّة ممّا علق به من حمولات إيديولوجيّة وتوظيف سياسيّ، ونقله الى الفضاء الوجوديّ.
حرية الإنسان:
وفي كتابه “حرية الإنسان في الإسلام” يُعيد أبو القاسم الحرية في الإسلام إلى جذورها القرآنية إيماناً منه بقدرات الوعي لدى الإنسان، وهو يحدد مفهوم الحرية انطلاقاً من التمايز الإسلامي عن الفهم الليبرالي والاشتراكي؛ حيث يرى الحرية الإسلامية حرية روحية، فبينما تجعل الفلسفة المادية الإنسان شيئاً من الأشياء تحكمه كافة قوانين الطبيعة، ولا يوجد شيء متجاوز لعالم المادة يختصّ به الإنسان عن بقية المخلوقات، بل هو كأيِّ موجود في الوجود لا خصوصية له ولا مزية، وهذا خلاف النصوص الدينية التي تشرع للإنسان عن طريق قناة الروح وهي البعد الرابع في تكوين الإنسان.
الاستخلاف:
في نظر ابو القاسم حاج حمد، تقوم مسألة الاستخلاف على محورين أساسيين هما: الإنسان والحرية؛ الإنسان باعتباره العنصر الفاعل في عملية الاستخلاف، والحرية وهي مناط الاستخلاف أو أداته. والاستخلاف عند حاج حمد هو أن تكون إرادة الإنسان تتحكم في اتجاهات ونتائج الصيرورة والحركة في عالم المشيئة، أي أن يصبح النظام الاقتصادي والاجتماعي خاضعاً لإرادة الإنسان، فالإنسان لم يوجد لكي يكون أسير المادة كما ترى الجدلية المادية، وليس الواقع هو الذي ينتج النظام كما رأت الفلسفات الوضعية، بل وجدت المادة مسخّرة للإنسان، ووجد الإنسان لينتج النظام ويتحكم في الواقع كما أراد الله تعالى، وهذا هو معنى قول حاج حمد: الإرادة تعلو على المشيئة؛ أي أن الإرادة الإنسانية بما يملكه الإنسان من حرية روحية ومن مقومات السمع والبصر والفؤاد، تعلو على المشيئة الطبيعية المفسرة جدلياً ومادياً.
والاستخلاف عند حج حمد مهمة منوطة بالإنسان، وليست مهمة منوطة بحزب أو جماعة أو طبقة تتملك الوصاية على البقية، فتنعدم الحرية والعدالة عبر التسلط بالطبقية الجائرة.
ختاماً:
ولم يسلم مشروع أبو القاسم حاج حمد من النقد، حيث تحدث عدد من النقاد عن غلبة النزعة التوفيقيّة عنده، بين ما أسماه “لاهوت الغيب” و”لاهوت الطّبيعة” مثلاً، أو بين الإيمان والمنهجيّة العلميّة، رغم تأكيده مراراً على تعذّر الجمع. إضافه الى نزوعه الى التجريد والطوباوية، واستناده إلى الحيز النظري أكثر منه إلى التجارب التاريخية. ويرتبط بذلك ارجاؤه تحقق الكثير من الأطروحات الى زمن مستقبلي، تتوفّر فيه شروط المثال، وهي الدّولة الإسلاميّة.