المقالاتحياة ومجتمع

التخلُّف الثقافي؛ الدلالات والمظاهر

( رؤية تحليلية- نقدية )

مدخل عام:

إن التاريخ الحضاري أو الثقافي للشعوب، لم يُكتَب إلا في زمن متأخر من القرن العشرين المنصرم. وتتبدى أحداث هذا التاريخ في صور محيرة من تصادم الحضارات وحوارها. فالتخلف ظاهرة متصلة اتصالاً وثيقاً بصراع الحضارات وتصادمها. ذلك أنه نتيجة مباشرة لهذا الصراع والصدام الثقافيين. ولتوزيع القوة والهيمنة بين الأمم والشعوب عبر الحقب التاريخية المختلفة.

بهذا المعنى، لا يعتبر التخلف ضعف الجهود التنموية حسب المقاييس الشكلية المتعارف عليها فقط. وإنما هو تأخر وارتكاس. والتأخر والارتكاس ظاهرتان مستقرتان في التاريخ وتعنيان تخلف الفكر أي تأخره عن زمانه و أوانه. وارتكاس الثقافة باتجاهها نحو الماضي والاحتماء به، بما يتناسب مع موقعهما في معادلة توزيع القوة والهيمنة بين شعوب العالم.

برز مصطلح التخلف بعد الحرب العالمية الثانية مع حصول عدد كبير من البلدان المستعمرة على الاستقلال الوطني. إلا أن مفهوم التخلف ذاع صيته وكثرت حوله الكتابات منذ خمسينيات القرن الماضي. حيث كُتِبَتْ خلال تلك الفترة ما يقارب آلاف المقالات والأبحاث والدراسات حول مشكلة التخلف ومظاهرها معتمدةً على منظورات ومقولات نظرية ومنهجية مختلفة بسبب اختلاف الرؤى الفكرية والإيديولوجية لكل مفكر وباحث التي ينطلق منها في دراسته وتحليله وتفسيره لمعاني ودلالات التخلف.

وما يهمنا في هذا المقال التعرف على المضامين الثقافية لمفهوم التخلف. ولكن قبل البدء بشرح هذه المضامين يجب علينا توضيح مفهوم التخلف ودلالاته الاجتماعية والثقافية.

أولاً- مفهوم التخلف:

يشير مفهوم التخلف إلى القعود أو العجز عن مسايرة الركب. وفي المعنى الاصطلاحي. هو ” التأخر “ الزمني والقيمي والسلوكي عن ركب الحضارة. فالإنسان أو الجماعة. حينما تكون القيم السائدة في حياتهما. تدعوهما إلى التكلس والجمود والرتابة، ويبرر لهما واقعهما المتأخر والسيئ تلك الحالة، فإننا نطلق عليها ” مصطلح التخلف “.

يعتبر التخلف النقيض الأساسي لمفهوم التنمية. حيث إن الدول العربية والإسلامية قاطبةً. والتي نالت استقلاها بعد الحرب العالمية الثانية لم تنجح في إنجاز عملية التنمية المستدامة تستطيع من خلالها تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي لشعوبها، لأنها قامت على ما يسمى بنظرية الإحلال إلا وهي إحلال النظريات الغربية داخل الواقع العربي والإسلامي على أمل تحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتطبيق المفاهيم التنموية بكافة المجالات بهدف النهوض بالواقع العربي والإسلامي إلى مصاف الدول المتقدمة.

وأمام هذا الفشل الذي مُنيت به النخب والقيادات السياسية العربية والإسلامية في تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي لأفراد المجتمع. كان لابد لهذا المفهوم أن يبقى مهيمناً على الساحة التنظيرية لتلك المجتمعات إلى يومنا هذا بدون وجود أي استراتيجيات أو حلول منطقية نابعة من الداخل تحاول أن تفككك هذا المفهوم وتجد البدائل ذات الصيغ العملية في الارتقاء بالواقع الاجتماعي والاقتصادي نحو الأفضل. ولكل السؤال الذي يطرح نفسه علينا ما هي دلالات ومعاني مفهوم التخلف ؟

– تعريف مفهوم التخلف:

هو حالة سكون وبطئ تصاحب عمليات التنمية نتيجة لعدم قدرة النخب والقيادات السياسية والاقتصادية مجتمعة في صياغة نظريات ومفاهيم ذات رؤى علمية وعملية في تحسين الواقع الاجتماعي نحو الأفضل. حيث إن توفر الإمكانيات والموارد المالية إلى جانب الوسائل الفنية والبشرية بدون استحالة تطبيقها على أرض الواقع لن يجدي شيئاً في تحسين البنى الاقتصادية والاجتماعية للأفراد القاطنين في تلك البلاد.

ويمكن لنا تعريفه أيضاً بأنه ” يعكس حالة تدني حضاري يبقي شعباً من الشعوب يحيا كيانات اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية على مستوى معين من الجمود لا يسمح له بالتغيير فيها “.

وقد ارتكز الفكر الحديث للتخلف على أنه ليس ظاهرة اقتصادية فقط. ولكنه أيضاً ظاهرة متعددة الأبعاد فهو يحتوي على جوانب اقتصادية واجتماعية وإنسانية. فالتخلف يعني الفقر والبطالة وعدم المساواة فهو يشير إلى مجموعة من الأوضاع غير الملائمة التي يعاني منها جانب كبير من أفراد المجتمع المتخلف.

– أهم الخصائص العامة التي تتسم بها المجتمعات التي تعاني من مظاهر التخلف:

في حقيقة الأمر نجد أن دول العالم النامي تظهر فيها مجموعة خصائص بدرجات متفاوتة قد تزيد أو تقل من دولة إلى أخرى، وهي كالآتي:

  • تتميز هذه الدول ( النامية ) باقتصادها المتخلف، حيث يعيش معظم أفرادها في مستوى معيشي منخفض. ويرجع ذلك إلى استخدام طرق بدائية في الزراعة والصناعة. وتعاني هذه المجتمعات نقص في الموارد. كما تعاني ارتفاع معدلات الجوع والأمراض والأمية والبطالة.
  • يظهر فيها انخفاض متوسط الإنتاج، مما يؤدي إلى تخلفها. وبالتالي يؤدي إلى انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي. وهذا يؤثر بالضرورة على دخول الأفراد وهذا بخلاف الوضع في دول العالم المتقدم التي نجحت في تطوير ذاتها وفي تأمين الحاجات الأساسية لأفرادها.
  • يعاني معظم سكان دول العالم النامي من انخفاض المستوى الصحي. وبالتالي هناك العديد من المشاكل الصحية الناتجة عن سوء التغذية والنقص الغذائي. كما ترتفع فيها نسبة وفيات الأطفال، حيث إنهم أكثر عرضة للأمراض وأقل قدرة على المقاومة. رغم التقدم الذي أحرزته الدول المتقدمة في مجال الرعاية الصحية.
  • أسهمت الزيادة السكانية في زيادة الفقر داخل دول العالم النامي. ويرجع ذلك إلى أن زيادة أعداد السكان تستوعب أي مدخرات للتنمية. ويرجع ذلك إلى أن الدولة تحاول مواجهة الحاجات الأساسية للأفراد. مما يؤدي لزيادة الأعباء الملقاة على عاتق الدولة في مجال الإسكان خاصةً والصحة والتعليم.
  • الأمية، تعتبر قضية الأمية من أهم الخصائص التي تتميز بها دول العالم النامي. حيث إن هذه الدول ما زالت تعاني من ارتفاع معدلات الأمية بها على الرغم من التوسع في إنشاء المدارس وإعداد المدرسين.

والمشكلة أنه هناك عدم توازن بين خطط التعليم واحتياج المجتمع الأساسية…

ويؤدي انخفاض المستوى التعليمي إلى عدم كفاءة مخرجات التعليم على مستوى ما يحتاج إليه السوق المحلي. مما يضطر المجتمع إلى استيرادها من الخارج، مما يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي للمجتمع.

كما أن وسائل التعليم تعتمد على الحفظ والتلقين. مما ينعكس سلباً على الاستثمار في مجال العنصر البشري الذي يعتبر من أهم العوامل الأساسي إلى جانب العامل الاقتصادي في انجاح عملية التنمية المستدامة. كما أشارت إلى ذلك العديد من الدراسات في هذا المجال.

وفي النهاية يمكننا القول بناءً على ما سبق أن التخلف:

-هو التأخر الزمني، عن ركب التطور والتقدم، إذ هناك مجتمعات إنسانية، متقدمة على هذا المجتمع في مختلف مجالات وحقول الحياة.

-سيادة القيم والمبادئ التي تبرر بشكل سلبي الواقع المتأخر والسيئ الذي يعيشه الإنسان. وتوفر القابلية النفسية والمجتمعية لعملية الخضوع والاستتباع.

-وبهذا لا يكون التأخر الزمني عن الركب الحضاري، محصوراً في الجانب المادي فحسب، بل يتعدى ذلك، وتكون مسافة التأخر، ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتتواجد في كل جوانب الحياة والسلوك وتأسيساً على حقيقة هذا التخلف كظاهرة – مجتمعية، لا تقف عند حد معين. بل تتوسع باستمرار، وتأخذ أبعاداً متنوعة.

-وإن التخلف كمرض السرطان من حيث فتكه واستمراره في القضاء على كل مقومات الجسم السليم. وعلى هذا الأساس ما نريد توضيحه في هذه المحاضرة هو البعد الاجتماعي والثقافي لمفهوم التخلف.

ثانياً- مفهوم التخلف الثقافي:

إن النسق الثقافي ليس في حالة استقرار وثبات دائم، بل أنه يتغير باستمرار. سواء كان هذا التغير يشمل الجوانب الإدراكية من الثقافة ( المعرفة ). أو يشمل الجوانب المعيارية منها  ( القواعد والقيم ). أو يشمل الجوانب المادية (الأشياء). وقد يشمل التغير جانب أو أكثر من هذه الجوانب، أو يشملها جميعاً في وقت واحد. وفي جميع الأحوال، نلاحظ أن التغير الثقافي      ( Cultural change ) ظاهرة عالمية تحدث في جميع المجتمعات الإنسانية.

ونجد أن هناك بعض العمليات الثقافية (Cultural processes )، التي تؤدي إلى حدوث هذا التغير الثقافي. والعمليات الثقافية هي الطرق التي عن طريقها تنتقل الثقافة وتنتشر وتتغير. ومن أهم هذه العمليات الثقافية: التجديد، والانتشار، والمزج الثقافي، والتمثل الثقافي، والتخلف الثقافي أو الهوة الثقافية.

وفي هذا السياق سنحاول التركيز على التخلف الثقافي. ولكن قبل الشروع بذلك سنسعى إلى تحديد مفهوم الثقافة ودلالات المعنى التي يشير إليها.  

1– مفهوم الثقافة: 

لقد تعددت المفاهيم المحددة لمضمون هذا المصطلح، حتى وصلت إلى (156) مفهوماً وتعريفاً. وبدون الدخول في عمليات مفاضلة بين هذه التعريفات المتعددة. فإننا نقصد بالثقافة هو المضاف والكسب الإنساني إلى الطبيعة فكل ما يضيفه الإنسان في علاقته مع الطبيعة هو ثقافة تتحول مع مرور الزمن إلى حضارة.

ولا بد للثقافات من التغير والتطور حسب مقتضيات تاريخها وبيئتها، وما يتصل بذلك من مؤثرات العصر الحديث في هذه الثقافة. ومع ظهور علم الثقافة، فقد أصبح الفرق بين الثقافة والتعليم واضحاً في الأذهان. وكذلك بين المثقف والمتعلم، وخصوصاً بعد تطور مفاهيم التعليم ونشوء ظاهرة الشهادات العلمية، التي هي بعيدة عن تنمية ملكة العلم الحقيقي. ومتقيدة بالجوانب المظهرية الهامشية للعلم. فالثقافة: هي ” عبارة عن المحيط الذى يؤثر في الإنسان فيشكل أسلوب حياة الفرد الذي يعيشه، ليؤدي دوره داخل المنظومة الاجتماعية. أي داخل كيان المجتمع في تنظيماته الاجتماعية التي ظهرت بين قديم المجتمعات وحديثها. وأكثر خصوصية وتشبعاً بقيم المجتمع الذاتية المنبعثة من عقيدتنا، فهي تشمل المقاييس الفكرية تجاه الأفكار و تجاه الأشياء ” .

وفي النهاية يعرف لنا إدوارد تايلور الثقافة بأنها..

” هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع “.

وهكذا يكون المعادل الطبيعي لمفهوم التخلف الثقافي هو فقدان السيطرة على الطبيعة وعدم التمكن من توظيفها بما يخدم الإنسان، أي أن التخلف الثقافي يصنع العجز المطلق أو النسبي تجاه الطبيعة وإمكاناتها، وتجاه المجتمع وآفاقه على قاعدة نفسية مهزومة ومهترئة، تحاول اللهاث وراء الآخرين، دون التمكن الفعلي من امتلاك أسباب التقدم والخروج من آثار التخلف الثقافي.

2- المنظور الثقافي للتخلف: 

ورد مفهوم التخلف الثقافي أو الهوة الثقافية ( Cultural lag) في كتاب ” التغير الاجتماعي ” للعالم الأمريكي ” ويليام أوجبرن ” ( W . Ogburn ) الذي نشره عام 1922. فقد عرض ” أوجبرن ” في كتابه السالف الذكر، لنظريته في التخلف الثقافي، والتي تعد دليلاً قاطعاً على مدى إحساس علماء الغرب بالآثار التي يمكن أن تترتب على كل تغير تكنولوجي في الحياة الاجتماعية.

ويرى ” أوجبرن ”

أن الثقافة تضم عنصرين أساسيين هما: العنصر المادي، العنصر اللامادي أو المعنوي. ويقصد بالعنصر المادي، التكنولوجيا والأدوات والوسائل المادية المختلفة، على حين يتضمن العنصر المعنوي، العادات والتقاليد وأساليب التفكير في المجتمع.

كما يعتقد ” أوجبرن ” أن التغيرات التي تطرأ على جزء من الثقافة اللامادية، الذي يطلق عليه اسم الثقافة التكيفية ( Adaptive culture) لا يتزامن تماماً مع التغيرات التي تطرأ على الثقافة المادية. فيشهد المجتمع نتيجة لذلك نوعاً من التخلف الثقافي الذي يرجع إلى تفاوت معدلات التغير الثقافي في الناحيتين : المادية واللامادية.

هكذا يبدو أن الجزء المادي والعلمي من الثقافة يتسع وينمو أسرع من الجزء ( اللامادي ). أي أن هناك معدلاً غير متساو للتغير في وجوه الثقافة. إذ أن الثقافة المستقرة التي تبتدأ في التغير لا تمارس نفس الدرجة في كل أجزائها في نفس الوقت.

-ويتضح من خلال نظرية ” أوجبرن ” السالفة الذكر ، أن التخلف الثقافي أو الهوة الثقافية، تشير إلى الموقف الذي يتغير فيه أحد عناصر أو مكونات الثقافة بشكل أسرع مما يتغير به غيرها من العناصر أو المكونات الأخرى للثقافة. وفي غالبية الحالات نجد أن الثقافة غير المادية تتخلف بالنسبة للثقافة المادية، مما يؤدي إلى حدوث مشكلات اجتماعية متعددة داخل المجتمع .

وقد أثارت نظرية التخلف الثقافي كما لاحظ بعض الدارسين عدد من التساؤلات مثل:

هل دائماً ما تتغير الثقافة المادية بشكل أسرع من الثقافة غير المادية ؟ وفي هذا الصدد، نجد أن أحد علماء الاجتماع المعاصرين ، وهو ” بيتريم سوروكين ” ( P . Sorokin ) لا يؤيد ما ذهب إليه ” أوجبرن ” من حيث إن العناصر المادية تتغير بسرعة أكبر من تغير العناصر غير المادية.

إذ يذكر ” سوروكين ” في كتابه ” الديناميات الثقافية والاجتماعية ”

أن في معظم المجتمعات، وفي غالبية فترات التاريخ، نجد أن الثقافة غير المادية قد تغيرت بشكل أسرع من تغير الثقافة المادية. ونلاحظ أن غالبية التغيرات التي حدثت في الثقافة المادية في المجتمعات الحديثة، هي هذه التغيرات التي ترتبط بالثورة الصناعية. وحتى في هذه الحالة، فإن التغيرات في المعرفة والعلم، التي تعتبر عادةً جزءاً من الثقافة غير المادية هي التي أدت إلى هذه التغيرات التي حدثت في الثقافة المادية.

ويبني ” سوروكين ” أفكاره في هذا السياق بالاعتماد على نظرية الارتباط الثقافي إذ أن التغير المادي يرجع حسب رأيه إلى عوامل داخلية بالمجتمع، وهذا على عكس ما ذهبت إليه نظرية الانتشار الثقافي. كما أنها ترى أن التغير يأتي من العناصر الكائنة في المجتمع وليس من خارجه. ويرى ” سوروكين ” أن الاتجاه العام للتغير يأخذ شكل التقدم المضطرد حتى يصل إلى حد معين، ثم يحدث جمود، ثم نكوص إلى حد معين، ثم يرتد التغير الثقافي إلى الاتجاه المضاد الإيجابي.

وتقوم نظرية ” سوروكين ” في الارتباط الثقافي على مبدأين أساسيين هما:

الأول: مبدأ التغير الداخلي الموروث:

ويقوم على حتمية التغير في المجتمع، وأن كل المجتمعات في تغير مستمر، حتى ولو بدت ثابتة من الخارج. وأن التغير يتم في شكل حلقات متصلة مترابطة تتأثر وتؤثر. ويؤكد أن تغير النظام الاجتماعي إنما يكون نتيجة لسلسلة من التغيرات التراكمية الموروثة التي تحدد مستقبل التغير.

 الثاني: مبدأ الحدية في التغير:

ويقوم على حدية العلاقة السببية بين المتغيرات المترابطة في تحديد عملية التغير، وفي إطار الممكنات المختلفة للمتباينات الأساسية للأنظمة الاجتماعية. فالنظام الاقتصادي يتغير في ضوء المتباينات التالية: الصيد، الرعي، الزراعة، التجارة، الصناعة. فهذه المتباينات تتكرر عبر العصور دون أن تسير سيراً مستقيماً. ويقرر سوروكين: أن الثقافة لا تفنى، وإنما تتحول أو تمتص لكنها لا تفنى.

تقييم نظرية الارتباط الثقافي ” لسوروكين “: نجد أنه بسط من عملية التغير الثقافي وقصرها في عامل واحد من ( داخل الثقافة ) ذاتها، وهذا فيه إهمال لعامل مهم في التغير الثقافي إلا  وهو عامل الانتشار الذي هو من أهم خصائص الثقافة.

إلا أن “ ماكس فيبر ” ( M . Weber ) أكد من خلال بعض الدراسات التي قام بها صحة ما ذهب إليه ” سوروكين “ ولذلك تبتن له أن الأفكار والقيم قد تؤدي إلى ظهور ونمو الثقافة المادية. مثال ذلك أثر الأخلاق البروتستانتية في نمو الرأسمالية.

3- معنى التخلف الثقافي: 

بناءً على الدراسة التشريحية لمفهوم التخلف بشكل عام والتخلف الثقافي بشكل خاص نستنتج أن معنى التخلف الثقافي يتحدد في النقاط التالية:

1) توقف عملية الكسب الاجتماعي، على المستوى الثقافي الحضاري. بحيث أضحى هذا المجتمع وعاء، لتلقي منجزات الآخرين، دون أن يقوم بأي جهد يذكر في عملية الكسب في هذا المجال.

والتوقف هنا، لا يبقى في مستوى واحد، وإنما لعامل الزمن وتراكمات التوقف والجمود، دورها في تعميق العوامل والأسباب، التي تحول دون ممارسة الكسب الثقافي والحضاري ولأن التخلف ليس ظاهرة اجتماعية جامدة بل هي متحركة، بحيث إن هذه الظاهرة تتمدد في الوسط الاجتماعي، وتلقي بقيمها وأنماطها وأنساقها على مجمل وتفاصيل الحركة الاجتماعية.

وهذه الحركة الاجتماعية المعتمدة في علائقها وصراعاتها وحراكها الداخلي على هذه الظاهرة، تقوم بدورها بعملية معكوسة، حيث تغذي ظاهرة التخلف، وتزيد من شموليتها وتعمق أبعادها، وتصبغ كل شيء بلونها.

2) تراجع موقع الثقافة بحيث لا يكون للمسائل والقيم الثقافية العليا وموقعها الطبيعي في الخريطة الاجتماعية ولذلك تصبح الاهتمامات الثقافية في مؤخرة الركب والاهتمام وهذا يعني على المستوى العملي، صخ الامكانات، وصرف الطاقات، في أمور وحقول لا تشكل أية أهمية إذا ما قارناها بموقع الثقافة ودورها في تقدم الأمم والشعوب.

3) شيوع الاضطراب المفهومي والمنهجي، بحيث يكون الواقع الاجتماعي خليطاً فوضوياً، للعديد من النقائض وذلك بفعل الاضطراب المفهومي ويصف الدكتور زكي نجيب محمود هذه الحالة وهو يتحدث عن ذلك الإنسان، الذي يعيش واقع التخلف الثقافي أنه: بمثابة من يحيا ثقافتين متعارضين في وقت واحد فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.

ومن الطبيعي أن هذا الاضطراب المنهجي والفوضى المفهومية. يؤديان، إلى استقطابات اجتماعية تزيد من تمزق المجتمع وضياعه وعدم قدرته على تحديد مصائره بنفسه.

ولعلنا لا نبالغ، إذ قلنا إن الكثير من المشكلات الداخلية، التي تعانيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، هي بفعل هذا الاضطراب ومتوالياته النفسية والاجتماعية والسياسية والحضارية. إذ أن هذا الاضطراب يمنع تشكل ووجود نمط ثقافي – اجتماعي نهضوي.

وبالتالي فإن التخلف الثقافي يعني سقوط خطوط الدفاع..

وتوفر مكونات اجتماعية وأنماط ثقافية، تعمل لتفريغ القيم الذاتية من مضامينها النهضوية والحضارية، وتتعامل مع الوافد، وكأنه المطلقة وجسر الخلاص الوحيد. والنتيجة الحتمية هي يباس ثقافي وتحجر فكري وتعصب عقدي على مستوى الداخل. وانبهار نفسي وعقلي بالوافد وعدم قدرة مجتمعية على استيعاب منجز العصر على مستوى الخارج.

بالإضافة إلى شيوع الهروب والتراخ، من كل عوامل الإنتاج وتطوير الكسب الذاتي، وإقبال – إلى حد الوله – على كل عوامل تعظيم ثقافة الاستهلاك الترفي. وفي هذه الأجواء المجتمعية – القائمة – على تقديس الكم والأشياء على حساب النوع والقيم، تتعمق كل أشكال ومظاهر وأنماط التخلف الثقافي.

ويحدد د. مصطفى حجازي في كتابه ( التخلف الاجتماعي )

بعض الظواهر الثقافية الناتجة عن شيوع التخلف الثقافي في المجتمع، من أبرزها: سرعة تدهور الحوار العقلاني والتفكير المنطقي والتعصب والتحيز وسرعة اطلاق الأحكام القطعية والأحكام المسبقة وسيطرة التفكير الخرافي والسحري.

فالتخلف الثقافي هو القاعدة العريضة التي تحتضن كل معوقات النمو، وكوابح التطوير، وتمنع الارتقاء الاجتماعي.

لذلك فإن المجتمعات العربية والإسلامية، لا يمكنها النهوض والتطور والتقدم إذا استمرت بالخضوع إلى تأثيرات ومفاعيل التخلف الثقافي. وأنه ينبغي في المرحلة الأولى. لعملية التطور والتقدم من العمل والتحرك الجاد، لإنهاء جذور التخلف الثقافي، ومحاولة أنماطه المجتمعية، وأشكاله الثقافية والفكرية.

إن النواة الأولى للتطور، هي محاربة جذور التخلف الثقافي، وإن بناء التقدم، يبدأ من تلك الأنشطة والأعمال المتجهة إلى تبديد كل أشكال وأنماط التخلف الثقافي. وأي تراخ عن العمل في هذا الاتجاه، هو استقالة عن المسؤولية الوطنية، وتبديد للأولويات، وهروب من صناعة المستقبل الأفضل.

ولا ريب أن تأثيرات التخلف الثقافي في الفضاء الاجتماعي، تشمل مختلف المجالات والحقول.. حيث إن الواقع السياسي يتأثر بالتخلف الثقافي. بمعنى أن كل مشروعات التحديث والتطوير السياسي، بحاجة دائماً إلى وعي ثقافي قادر على استيعاب خطوات وإجراءات التحديث السياسي. ومن المؤكد أن التخلف الثقافي يعرقل عملية الاستيعاب والهضم والتكييف.

كما أن الوضع الاقتصادي يتأثر بمستوى الوعي والحالة الثقافية…

فإذا كانت الثقافة السائدة. اتكالية، لا مبالية، فإن الإنسان سيتحول إلى طاقة استهلاكية – سلبية، لا تمتلك أدنى مقومات الاشتراك في عمليات الإنتاج والتطوير الاقتصادي. أما إذا كانت الثقافة مسؤولة. وتحث على العمل والالتزام والإبداع والعمران، فإن هذه الثقافة ستحول أبناء المجتمع إلى طاقات خلاقة في مختلف الحقول والميادين ولذلك فإننا نعتقد أن إنهاء جذور التخلف الثقافي من واقع ثقافتنا وفضائنا الاجتماعي. سيساهم في تجاوز الكثير من المحن والاختناقات التي تزيد من ضعفنا وتردي أوضاعنا. فكلما تمكنا كمجتمع من إنهاء جذور التخلف الثقافي من واقعنا، استطعنا أن نقبض على أسباب التقدم وعوامل التطور، وننمي في فضائنا كل متطلبات الرقي والاستقرار. 

ولإنهاء جذور التخلف الثقافي من واقعنا نقترح ما يلي:

أ- إعادة بناء ثقافتنا الاجتماعية على أسس المسؤولية والعمل والعمران. فلا يمكن أن نتجاوز تأثيرات التخلف الثقافي المتعددة. إلا ببناء ثقافة اجتماعية جديدة، تعلي من شأن العمل وتحمل المسؤولية، وتحذر من الترهل والتكاسل، وتؤسس لحقائق التعاون والتضامن بكل صورهما وأشكالهما. فالثقافة الاجتماعية الجديدة، هي جسرنا للعبور إلى الواقع الجديد، الذي يتجاوز كل حالات التراجع والتدهور وتوقف حركة البناء والإبداع.

ب- بلورة إرادة مجتمعية مستديمة، تأخذ على عاتقها ترجمة هذه التطلعات، ونقل الطموحات من مرحلة الوعد إلى مرحلة الانجاز. فإنهاء كل جذور التخلف الثقافي وأشكاله ومظاهره من فضائنا الاجتماعي، يتطلب إرادة صلبة ومستديمة، وعمل متواصل، يستهدف تفكيك بنية التخلف الثقافي ومجابهة كل تأثيراته وانعكاساته.

ج- التفاعل الخلّاق مع الثقافات الإنسانية، ورفض كل صيغ الانزواء ومحاولات الانطواء، لأنهما تمنعنا من التعرف على حقائق الثقافات الإنسانية الأخرى. ومن المؤكد أن التفاعل الخلّاق مع الثقافات الإنسانية، سيوفر لنا القدرة على الاستفادة من منجزاتهم الإنسانية ومكاسبهم الحضارية.

وفي النهاية..

نجد أن دراسة مظاهر الإنسان المتخلف تهتم بالبعد الذاتي الإنساني في علاقته بالبعد الاجتماعي – الاقتصادي داخل سياق تاريخي له بنيته الخاصة وديناميته رغم ما يبدو عليها من جمود وتقليد ظاهري يفرضه المجتمع ولكن إذا أردنا أن نضع الأمور في إطارها البشري الصحيح يجب علينا أن نستوعب طبيعة البنية الاجتماعية لكل واقع لنصل إلى نماذج من الاستجابات النفسية والعقلية والعلائقية النوعية.

______
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

المصدر
التنويري
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات